كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

ولايخفى أن الأوفق بحديث الجزاء أن يكون المراد بقوله : فعلتها وأنا من الضالين فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة على أن الضلال بمعنى الجهل المفسر بالاقدام من غير مبالاة لكن التزام كون إذا هنا للجواب والجزاء التزام ما لايلزم فان الصحيح الذي قال به الأكثرون أنها قد تتمحض للجواب وفي البحر أنهم حملوا ما في هذه الآية على ذلك وتوجيه كونها للجزاء فيها بما ذكر لايخلو عن تكلف والأظهر عندي معنى ما آثره بعض أفاضل المحققين من أنها ظرف مقطوع عن الاضافة ولا أرى فيه ما يقال سوى أنه معنى لم يذكره أكثر علماء العربية وهم لم يحيطوا بكل شيء علما إن أبيت هذا فهي للجواب فقط ومن العجب قول ابن عطية : إنها هنا صلة في الكلام ثم قوله : وكأنها بمعنى حينئذ ولو اكتفى به على أنه تفسير معنى لكان له وجه فتأمل والله تعالى أعلم
قال فرعون مستفهما عن المرسل سبحانه وما رب العالمين
32
- وتحقيق ذلك على ما قال العلامة الطيبي أنه عز و جل لما أمرهما بقوله سبحانه : فاتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين
أن أرسل معنا بني إسرائيل فلابد أن يكونا ممتثلين مؤديين لتلك الرسالة بعينها عند اللعين فلما أديت عنده اعترض أولا بقوله : ألم نربك فينا وليدا إلى أخره وثانيا بقوله وما رب العالمين ولذلك جيء بالواو العاطفة وكرر قال للطول فكأنه قال : أأنت رسول وما رب العالمين وقال الزمخشري : إن اللعين لما قال له بوابه : إن ههنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله : وما رب العالمين واعترض بانه نظم مختل لسبق المقاولة بينهم كما أشار اليه هو في سابق كلامه وانتصر له صاحب الكشف فقال : أراد أنه تعالى ذكر مرة فقولا انا رسولا ربك أن أرسل وأخرى فقولا انا رسول رب العالمين والقصة واحدة والمجلس واحد فحمله على أن الثاني ما أداه البواب عن لسانه عليه السلام والأول ما خاطبه به موسى عليه السلام مشافهة وأن اللعين أخذ أولا في الطعن فيه وان مثله ممن قرف برذائل الأخلاق لايرشح لمنصب عال فضلا عما ادعاه وثانيا في السؤال عن شأن من ادعى الرسالة عنه استهزاء ومن هذا تبين أن سبق المقاولة لايدل على اختلال النظم الذي أشار اليه انتهى
وجوز بعضهم وقوع الأمر مرتين وأن فرعون سأل أولا بقوله فمن ربكما يا موسى وسأل ثانيا بقوله وما رب العالمين وقد نص الله تعالى الأول فيما أنزل جل وعلا أولا وهو سورة طه والثاني فيما أنزله سبحانه ثانيا وهو سورة الشعراء فقد روي عن ابن عباس أن سورة طه نزلت ثم الواقعة ثم طسم الشعراء وقال آخر : يحتمل أنهما إنما قالا : إنا رسول رب العالمين والاقتصار في سورة طه على ذكر ربوبيته تعالى الى فرعون لكفايته فيما هو المقصود وعلى القول بوقوع الأمر مرتين قيل : ان فرعون سأل في المرة الأولى بقوله : من ربكما طلبا للوصف المشخص كما يقتضيه ظاهر الجواب خلافا للسكاكي في دعواه أنه سؤال عن الجنس كأنه قال : أبشر هو أم ملك أم جني والجواب من الأسلوب الحكيم وأخرى بما رب العالمين طلبا للماهية والحقيقة انتقالا لما هو أصعب ليتوصل بذلك الى بعض أغراضه الفاسدة حسبما قص الله تعالى بعد و ما يسئل بها عن الحقيقة مطلقا سواء كان المسئول عن حقيقته من أولي العلم أولا فلا يتوهم أن حق الكلام حينئذ أن يقال من رب العالمين حتى يوجه بانه لانكار اللعين له عز و جل عبر بما ولما كان السؤال عن الحقيقة مما لا يليق بجنابه جل وعلا

الصفحة 71