كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

وكون الأرض تارة مظلمة وأخرى منورة الى الله تعالى وفي هذا ارشاد الى ذلك فان ذكر المشرق والمغرب منبيء عن شورق الشمس وغروبها المنوطين بحركات السموات وما فيها على نمط بديع يترتب عليه هذه الأوضاع الرصينة وكل ذلك أمور حادثة لاشك في افتقارها الى محدث قادر عليم حكيم وارتكب عليه السلام الخشونة كما ارتكب معه بقوله إن كنتم تعقلون
82
- أي ان كنتم تعقلون شيئا من الأشياء أو ان كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته وأشرت اليه فان فيه تلويحا الى أنهم بمعزل من دائرة العقل وأنهم الاحقاء بما رموه به عليه السلام من الجنون
وقرأ عبد الله وأصحابه والاعمش رب المشارق والمغارب على الجمع فيهما ولما سمع اللعين منه عليه السلام تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على تمشية أمره وأنه ممن لايجاري في حلبة المحاورة قال ضاربا صفحا عن المقاولة الى التهديد كما هو ديدن المحجوج العنيد : لئن اتخذت الها غيري لأجعلنك من المسجونين
92
- وفيه مبالغة في رده عن دعوى الرسالة حيث أراد منه ما أراد ولم يقنع عليه السلام بترك دعواها وعدم التعرض له وفيه أيضا عتو آخر حيث أوهم أن موسى عليه السلام متخذ له الها في ذلك الوقت وان اتخاذه غيره الها بعد مشكوك وبالغ في الابعاد على تقدير وقوع ذلك حيث أكد الفعل بما أكد وعدل عن لأسجننك الأخصر لذلك أيضا فان أل في المسجونين للعهد فكأنه قال : لأجعلنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني وكان عليه اللعنة يطرحهم في هوة عميقة قيل : عمقها خمسمائة ذراع وفيها حيات وعقارب حتى يموتوا
هذا وقال بعضهم : السؤال هنا وفي سورة طه عن الوصف والقصة واحدة والمجلس واحد واختلاف العبارات فيها لاقتضاء كل مقام ما عبر به فيه ويلتزم القول بأن الواقع هو القدر المشترك بين جميع تلك العبارات وبهذا ينحل اشكال اختلاف العبارات مع دعوى اتحاد القصة والمجلس لكن تعيين القدر المشترك الذي يصح أن يعبر عنه بكل من تلك العبارات يحتاج إلى نظر دقيق مع مزيد لطف وتوفيق ثم ان العلماء اختلفوا في أن اللعين هل كان يعلم ان للعالم ربا هو الله عز و جل أولا فقال بعضهم : كان يعلم ذلك بدليل لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية زعما منه أن فيه الاعتراف باصل الوجود وذكروا أن ادعاءه الألوهية وقوله : أنا ربكم الأعلى انما كان ارهابا لقومه الذين استخفهم ولم يكن ذلك عن اعتقاد وكيف يعتقد أنه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنه وجد بعد أن لم يكن ومضى على العالم الوف من السنين وهو ليس فيه ولم يكن له الا ملك مصر ولذا قال شعيب لموسى عليهما السلام : لما جاءه في مدين لاتخف نجوت من القوم الظالمين
وقال بعضهم : انه كان جاهلا بالله تعالى ومع ذلك لايعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما بل كان دهريا نافيا للصانع سبحانه معتقدا وجوب الوجود بالذات للافلاك وان حركاتها أسباب لحصول الحوادث ويعتقد أن من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعة استحق العبادة من أهله وكان ربا لهم ولهذا خصص الوهيته وربوبيته ولم يعمهما حيث قال : ما علمت لكم من اله غيري وأنا ربكم الأعلى وجوز أن يكون

الصفحة 73