كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

وقسمهم على ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر وفي ذلك إرهاب لموسى عليه السلام بزعمهم وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة في قولهم بعزة فرعون تعظيما له وهذا القسم من نوع أقسام الجاهلية وقد سلك كثير من المسلمين في الايمان ما هو أشنع من أيمانهم لايرضون بالقسم ابلله تعالى وصفاته عز و جل ولا يعتدون بذلك حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان أو برأسه أو برأس المحلف أو بلحيته أو بتراب قبر أبيه فحينئذ يستوثق منه ولهم أشياء يعظمونها ويحلفون بها غير ذلك ولايبعد أن يكون الحلف بالله تعالى كذبا أقل إثما من الحلف بها صدقا وهذا مما عمت به البلوى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم وقال ابن عطية بعد أن ذكر أنه قسم : والأحرى أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذا كانوا يعبدونه كما تقول : إذا ابتدأت بشيء بسم الله تعالى وعلى بركة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحو ذلك
فالقى موسى عصاه فاذا هي تلقف أي تبتلع بسرعة وأصل التلقف الأخذ بسرعة وقرأ أكثر السبعة تلقف بفتح اللام والتشديد والأصل تتلقف فحذفت إحدى التاءين والتعبير بالمضارع لاستحضار السورة والدلالة على الاستمرار ما يأفكون
54
- أي الذي يقلبونه من حاله الأول وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى فما موصولة حذف عائدها للفاصلة وجوز أن تكون مصدرية أي تلقف أفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة فألقي السحرة ساجدين
64
- أي خروا ساجدين إثر ما شهدوا ذلك من غير تلعثم وتردد لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه السلام لتصديقه وعبر عن الخرور بالالقاء لأنه ذكر مع الالقاءات فسلك به طريق المشاكلة وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا فهنالك استعارة تبعية زادت حسنها المشاكلة وبحث في ذلك بعضهم بأن الله تعالى خالق خرورهم عند أهل الحق وخلقه هو الالقاء فلا حاجة إلى التجوز
وأنت تعلم أن إيجاد خرورهم وخلقه فيهم لايسمى القاء حقيقة ولغة ثم ظاهر كلامهم أن فاعل الالقاء لو صرح به هو الله عز و جل بما خولهم من التوفيق وجوز الزمخشري أن يكون إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة ثم قال : ولك أن لا تقدر فاعلا لأن ألقي بمعنى خروا وسقطوا وتعقب هذا أبو حيان بانه ليس بشيء إد لايمكن أن يبنى الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه أما أنه لايقدر فاعل فقول ذاهب عن الصواب ووجه ذلك صاحب الكشف بانه أراد أنه لايحتاج الى تقدير فاعل آخر غير من أسند اليه المجهول لأنه فاعل الالقاء ألا ترى إنك لو فسرت سقط بالقى نفسه لصح والطيبي بانه أراد أنه لايحتاج إلى تعيين فاعل لأن المقصود الملقى لاتعيين من ألقاه كما تقول قتل الخارجي
وأنت تعلم أن التعليل الذي ذكره الزمخشري إلى ما اختاره صاحب الكشف أقرب وبالجملة لابد من تأويل كلام صاحب الكشاف فانه أجل من أن يريد ظاهره الذي يرد عليه ما أورده أبو حيان وفي سجود السحرة وتسليمهم دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لاحقيقة له لأن السحر أقوى ما كان في زمن موسى عليه السلام ومن أتى به فرعون أعل أهل عصره به وقد بذلوا جهدهم وأظهروا أعظم ما عندهم

الصفحة 78