كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 19)

في كفرهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقد إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فافسدها وجعلها شذر مذر ولم يترك لها من عين ولا أثر واللفظ المستعار وقع فيه استعمال قدم بمعنى عمد وقصد لاشتهاره فيه وإن كان مجازا كما يشير إليه كلام الأساس ويسمى القصد الموصل إلى المقصد قدوما لأن مقدمته وتضمن التمثيل تشبيه أعمالهم المحبطة بالهباء المنثور بدون استعارة فلا إشكال على ما قيل والكلام في ذلك طويل فليطلب من محله وجعل بعضهم القدوم في حقه عز و جل عبارة عن حكمه وقيل : الكلام على حذف مضاف أي قدم ملائكتنا وأسند ذلك اليه عز و جل لأنه عن أمره سبحانه ونقل عن بعض السلف أنه لايؤول في قوله تعالى : وجاء ربك وقوله سبحانه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام على ما هو عادتهم في الصفات المتشابهة وقياس ذلك عدم التأويل في الآية ولعله من هنا قيل : إن تأويل الزمخشري لها بناء على معتقده من إنكار الصفات والقلب إلى التأويل فيها أميل
وأنت إن لم تؤول القدوم فلابد لك أن تؤول جعلها هباء منثورا باظهار بطلانها بالكلية وإلغائها عن درجة الاعتبار بوجه من الوجوه ولا يأبى ذلك السلف أصحاب الجنة هم المؤمنون المشار اليهم في قوله تعالى : قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون يومئذ أي يوم إذ يكون ما ذكر من القدوم إلى أعمالهم وجعلها هباء منثورا أو من هذا وعدم التبشير وقولهم : حجرا محجورا خير مستقرا المستقر المكان الذي يستقر فيه في أكثر الاوقات للتجالس والتحادث وأحسن مقيلا المقيل المكان الذي يؤوى اليه للاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن سمي بذلك لأن التمتع به يكون وقت القيلولة غالبا وقيل : هو في الأصل مكان القيلولة وهي النوم نصف النهار ونقل من ذلك إلى مكان التمتع بالأزواج لأنه يشبهه في كون كل منهما محل خلوة واستراحة فهو استعارة وقيل : أريد به مكان الاسترواح مطلقا استعمالا للمقيد في المطلق فهو مجاز مرسل وإنما لم يبق على الأصل لما أنه لانوم في الجنة أصلا
وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لاينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا وقرأ إن مقيلهم لألى الجحيم وأخذ منه بعضهم أن المراد بالمستقر موضع الحساب وبالمقيل محل الاستراحة بعد الفراغ منه ومعنى يقيل هؤلاء يعني أصحاب الجنة ينقلون اليها وقت القيلولة وقيل : المستقر والمقيل في المحشر قبل دخول الجنة أو المستقر فيها والمقيل فيه
فقد أخرج ابن جرير عن سعيد الصواف قال : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وإنهم ليقيلون في رياض حتى يفرغ الناس من الحساب وذلك قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا وفي وصفه بزيادة الحسن مع حصول الخيرية بعطفه على المستقر رمز إلى أن لهم ما يتزين به والتفضيل المعتبر فيهما المسرة إما لارادة الزيادة على الاطلاق أي هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل وإما بالاضافة الى ماللكفرة المتنعمين في الدنيا

الصفحة 8