كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 20)

الخ وإذا أريد الدلالة على عموم النفي تعين جعله نحو الاستثناء في قولهم : ما أعانهإخوانكم إلا إخوانه فتدبر وجوز كونه متصلا كما هو الأصل في الاستثناء على أن المراد بمن في السموات والارض من اطلع عليهما اطلاع الحاضر فيهما مجازا مرسلا أو استعارة وأيا ما كان فهو معنى مجازي عام له تعالى شأنه ولذوي العلم من خلقه وهو المخلص من لزوم ارتكاب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف في صحته كما فعله بعض القائلين بالاتصال وقيل : يعلق الجار والمجرور على ذلك التقدير بنحو يذكر من الافعال المنسوبة على الحقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين لابنحو استقر مما لايصح نسبته اليه سبحانه على الحقيقة أي لايعلم من يذكر في السموات والارض الغيب إلا الله ويجوز تعليقه باستقر أيضا إلا أنه يجعل مسندا إلى مضاف حذف وأقيم المضاف مقامه أي لايعلم من أستقر ذكره في السموات والأرض الغيب إلا الله فحذف الفعل والمضاف واستتر الضمير لكونه مرفوعا وهذا وما قبله كما ترى واعترض حديث الاتصال بأنه يلزم عليه التسوية بينه تعالى وبين غيره في إطلاق لفظ واحد وهو أمر مذموم فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله وأجيب بأن ذلك مما يذم إدا صدر من البشر أما إدا صدر منه تعالى فلا يذم على أن كونه مما يذم إذا صدر من البشر مطلقا ممنوع فقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه تعالى وسلم : ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الايمان من كان الله تعالى ورسوله أحب اليه مما سواهما الحديث ولعل مراد الذم والمدح تضمن ذلك نكتة لطيفة وعدم تضمنه إياها وقد قيل في حديث أنس : النكتة في تثنية الضمير الايماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين والنكتة في إفراد حديث عدي الاشعار بأن كلا من العصيانين مستقل باستلزام الغواية وقد مر الكلام في هذا المبحث فتذكر وجوز أن يعرب من مفعول يعلم والغيب بدل اشتمال منه والاسم الجليل فاعل يعلم ويكون استثناء مفرغا أي لايعلم غيب من في السموات والارض إلا الله ولا يخفى بعده
والغيب في الأصل غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين واستعمل في الشيء الغائب الذي لم تنصب له قرينة وون ذلك غيبا باعتباره بالناس ونحوهم لا بالله عز و جل فانه سبحانه لايغيب عنه تعالى شيء لكن لايجوز أن يقال : إنه جل وعلا لا يعلم الغيب قصدا إلى أنه لا غيب بالنسبة اليه ليقال يعلمه شنع الشيخ الفاروقي السرهندي المشهور بالامام الرباني في متكوباته على من قال ذلك قاصدا ما ذكر أتم تشنيع كما هو عادته جزاه الله تعالى خيرا فيمن لم يتأدب بآداب الشريعة الغراء والظاهر عموم الغيب وقيل : المراد به الساعة وقيل : ما يضمره أهل السموات والارض في قلوبهم وقيل : المراد جنس الغيب ويلزم من نفي علم جنسه عن غيره عز و جل نفي علم كل فرد من افراده عن ذلك الغير ولا يضر في ذلك أن الآية لاتدل حينئذ على ثبوت علم كل غيب له عز و جل بل قصارى ما تدل عليه ثبوت علم جنس الغيب له سبحانه لأنه المنفي صريحا عن المستثنى منه ولا يلزم من ثبوت علم هذا الجنس ثبوت علم كل فرد من أفراده لأنها لم تسق للاستدلال بها على ذلك وكم وكم من دليل عقلي ونقلي يدل عليه وتعقب بأن الغيب من حيث أنه غيب لايتفاوت فمتى ثبت العلم ببعض أفراده ثبت العلم بجميعها دفعا للزوم الترجيح بلا مرجح فتأمل

الصفحة 10