كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 20)

واختار بعضهم الاستغراق أي لايعلم من في السموات والارض كل غيب إلا الله فانه سبحانه يعلم كل غيب لأنه الاوفق بالمقام واعترض بانه يلزم أن يكون من أهل السموات والارض من بعلم بعض الغيوب وظاهر كلام كثير من الأجلة يأبى ذلك ويؤيده ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه قالت : من زعم أن محمد صلى الله عليه و سلم يخبر الناس بما يكون في غد وفي بعض الروايات يعلم ما في غد فقد أعظم على الله تعالى الفرية والله تعالى يقول : قل لايعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله وجوز بعضهم أن يكون منهم من يعلم بعض الغيوب ففي بيان قواطع الاسلام تأليف العلامة ابن حجر بعد الرد على من أكفر من قيل له : أتعلم الغيب فقال : نعم لأن فيما قاله تكذيب النص وهو قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلأ هو وقوله تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ما نصه : وعلى كل فالخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا كما وقع لكثير منهم واشتهر والذي اختص به تعالى إنما هو علم الجميع وعلم مفاتح الغيب المشار اليها بقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب الآية وينتج من هذا التقرير أن من ادعى علم الغيب في قضية أو قضايا لايكفر وهو محمل ما في الروضة ومن ادعى علمه في سائر القضايا يكفر وهو محمل ما في أصلها إلا أن عبارته لما كانت مطلقة تشمل هذا وغيره ساغ للنووي الاعتراض عليه فان أطلق فلم يرد شيئا فالأوجه ما اقتضاه كلام النووي من عدم الكفر انتهى
ولعل الحق أن يقال : إن علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص لذاته أي بلا واسطة في ثبوته له وهذا مما لايعقل لأحد من أهل السموات والأرض لمكان الامكان فيهم ذاتا وصفة وهو يأبى ثبوت شيء لهم بلا واسطة ولعل في التعبير عن المستثنى منه بمن في السموات والأرض إشارة إلى عله الحكم وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء ضرورة أنه من الواجب عز و جل أفاضه عليهم بوجه من وجوه الافاضة فلا يقال : إنهم علموا الغيب بذلك المعنى ومن قاله كفر قطعا وإنما يقال : إنهم أظهروا أو اطلعوا بالبناء للمفعول على الغيب أو نحو ذلك مما يفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم ويؤيد ما ذكر أنه لم يجيء في القرآن الكريم نسبة علم الغيب إلى غيره تعالى أصلا وجاء الاظهار على الغيب لمن ارتضى سبحانه من رسول لايقال : يجوز على هذا أن يقال : أعلم فلان الغيب بالبناء للمفعول أيضا على معنى أن الله تعالى أعلمه وعرفه بطريق من طرق الاعلام والتعريف ومتى جاز هذا أن يقال : علم فلان الغيب بقصد نسبة علمه الحاصل من إعلامه اليه لأنا نقول : لا كلام في جواز أعلم بالبناء للمفعول وإنما الكلام في قولك : ومتى جاز هذا جاز أن يقال الخ فنقول : إن إريد بالجواز في تالي الشرطية الجواز معنى أي الصحة من حيث المعنى فمسلم لكن ليس كل ما جاز معنى بهذا جاز شرعا استعماله وان أريد الجوازشرعا بمعنى عدم المنع من استعماله فهو ممنوع لما فيه من الايهام والمصادمة لظاهر الآيات كآية قل لايعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وغيرها وقد سمعت عن الامام الرباني قدس سره النوراني أنه حط كل الحط على ما قال الله سبحانه : لايعلم الغيب متأولا له بما تقدم لما فيه من المصادمة للنصوص القرآنية وغيرها وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه وقد شنعوا أيضا على من قال : أكره الحق وأحب الفتنة وأفر من الرحمة مريدا بالحق الموت وبالفتنة المال أو الولد وبالرحمة المطر لما في ظاهره من الشناعة والبشاعة ما لا يخفى

الصفحة 11