كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 20)

وهو الأليق فيما بعده في سياق النظم الكريم وجعل أبو البقاء هذه الجملة من جملة القول المأمور به وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى : فأنبتنا الخ فانه صريح في أن التبكيت من قبله عز و جل بالذات وحمله على أنه حكاية منه عليه الصلاة و السلام لما أمر به بعبادته كما في قوله سبحانه : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم تعسف ظاهر من غير داع اليه وفي بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم و أم في قوله تعالى أمن خلق السموات والأرض منقطعة لامتصلة كالسابقة وبل المقدرة على القراءة الأولى وهي قراءة الحسن وقتادة وعاصم وأبي عمرو للاضراب والانتقال من التبكيت تعريضا إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الالزام كنظائرها الآتية والهمزة لحملهم على الاقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الاقرار به ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلا على ما سبق في الاستفهام الأول خلا أن تشركون المقدر ههنا بتاء الخطاب على القراءتين معا وهكذا في المواضع الأربعة الآتية والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما وأنزل لكم التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الاولى لتشديد التبكيت والالزام واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم من السماء ماء أي نوعا منه وهو المطر فأنبتنا به بمقتضى الحكمة لا أن الانبات موقوف عليه عقلا وقيل : أي أنبتنا عنده حدائق جمع حديقة وهي كما في البحر البستان سواء أحاط به جدار أم لا وهو ظاهر إطلاق تفسير ابن عباس حيث فسر الحدائق وهو الاحاطة وهو مروي عن الضحاك وقال الراغب : هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها ولعل الأظهر ما في البحر وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الاحداق وتنظر اليها ذات بهجة أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر ما كان لكم أي ما صح وما أمكن لكم أن تنبتوا شجرها فضلا عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون وتقدير الخبر هكذا هو ما أختاره الزمخشري وتبعه غيره
وقال ابن عطية : يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا المعنى وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح له : ولابد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه والتقدير أم من خلق السموات والأرض كمن لم يخلق وكذلك يقدر في أخواتها وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لايخلق انتهى ولعل الأولى ما أختاره جار الله وكذا يقال فيما بعد
وقرأ الأعمش أمن بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام ومن بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الانزال على مفعوله لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر والالتفات إلى التكلم بنون العظة لتأكيد اختصاص الفعل المقابلة بذاته تعالى والايذان بأن انبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع مالها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد أمر عظيم لايكاد يقدر عليه إلا هو وحده عر وجل ورشح ذلك بقوله تعالى : ما كان لكم الخ سواء كان صفة لحدائق أو حالا

الصفحة 4