كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 20)

أبكاني البين حتى رأيت غسلي بعيني وقيل المراد رؤية وقت ذلك وليس بذاك والامر على تقدير كونها بمعنى المعرفة ظاهر لأنهم قد عرفوا ذهاب ملكهم وهلاكهم لما شاهدوه من ظهور أولئك المستضعفين عليهم وطلوع طلائعه من طرق خذلانهم وفسر بعضهم الموصول بظهور موسى عليه السلام وهو خلاف الظاهر المؤيد بالآثار وكأن ذلك منه لخفاء وجه تعلق رؤية فرعون ومن معه بذهاب ملكهم وهلكهم عليه وقد علمت وجهه وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي ويرى بالياء مضارع رأى وفرعون بالرفع على الفاعلية وكذأ ما عطف عليه وأوحينا إلى أم موسى قيل هي محيانة بنت يصهر بن لاوي وقيل يوخابذ وقيل يارخا وقيل يارخت وقيل غير ذلك والظاهر أن الايحاء اليها كان بارسال ملك ولا ينافي حكاية أبي حيان الاجماع على عدم نبوتها لما أن الملائكة عليهم السلام قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم والى هذا ذهب قطرب وجماعة وقال مقاتل منهم : إن الملك المرسل اليها هو جبريل عليه السلام وعن ابن عباس وقتادة أنه كان إلهاما ولا يأباه قوله تعالى : إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين نعم هو أوفق بالاول وقال قوم : إنه كان رؤيا منام صادقة قص فيها أمره عليه السلام وأوقع الله تعالى في قلبها اليقين وحكي عن الجبائي أنها رأت في ذلك رؤيا فقصتها على من تثق به من علماء بني إسرائيل فعبرها لها وقيل كان باخبار نبي في عصرها إياها والظاهر أن هذا الايحاء كان بعد الولادة وفي الاخبار ما يشهد له فيكون في الكلام جملة محذوفة وكأن التقدير والله تعالى أعلم : ووضعت موسى أمه في زمن الذبح فلم تدر ما تصنع في أمره وأوحينا اليها أن أرضعيه وقيل : كان قبل الولادة وأن تفسيرية أو مصدرية والمراد أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه وقرأ عمر بن عبد الواحد وعمر بن عبد العزيز أن أرضعيه بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس لأن القياس فيه نقل حركتها وهي الفتحة إلى النون كما في قراءة ورش
فإدا خفت عليه من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الابناء أو من الجيران ونحوهم أن ينموا عليك فألقيه في اليم أي في البحر والمراد به النيل ويسمى مثله بحرا وإن غلب في غير العذب ولا تخافي عليه ضيعة أو شدة من عدم رضاعه في سن الرضاع ولا تحزني من مفارقتك إياه إنا رادوه إليك عن قريب بحيث تأمنين عليه ويوميء إلى القرب السياق وقيل التعبير باسم الفاعل حقيقة في الحال ويعتبر لذلك في قوله سبحانه : وجاعلوه من المرسلين ولا يضر تفاوت القربين والجملة تعليل للنهي عن الخوف والحزن وإيثار الجملة الاسمية وتصديرها بحرف التحقيق للاعتناء بتحقيق مضمونها أي إنا فاعلون رده وجعله من المرسلين لامحالة واستفصح الاصمعي امرأة من العرب أنشدت شعرا فقالت : أبعد قوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى الآية فصاحة وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين والفاء في قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون فصيحة والتقدير ففعلت ما أمرت به من إرضاعه والقائه في اليم لما خافت عليه وحذف ما حذف تعويلا على دلالة الحال وإيذانا بكمال سرعة الامتثال

الصفحة 45