كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 20)

اليها أو يقدر نحو ذلك وروي أن أخته لما قالت ما قالت أمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله فأتت بأمه وموسى عليه السلام على يد فرعون يبكي وهو يعلله فدفعه اليها فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال : من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك فقالت إني أمرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي الا قبلني فقرره في يدها فرجعت به إلى بيتها من يومها وأمر أن يجرى عليها النفقة وليس أخذها ذلك من أخذ الاجرة على ارضاعها إياه ولو سلم فلا نسلم أنه كان حراما فيما تدين وكانت النفقة على ما في البحر دينارا في كل يوم كي تقر عينها بوصول ولدها اليها ولا تحزن لفراقه ولتعلم أن وعد الله أي جميع ما وعده سبحانه من رده وجعله من المرسلين حق لاخلف فيه بمشاهدة بعضه وقياس بعضه عليه وإلا فعلمها بحقية ذلك بالوحي حاصل قبل
واستدل أبو حيان بالآية على ضعف قول من ذهب إلى أن الايحاء كان الهاما أو مناما لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد وفيه نظر ولكن أكثرهم لا يعلمون
31
- أي لايعرفون وعده تعالى ولا حقيته أو لايجزمون بما وعدهم جل وعلا لتجويزهم تخلفه وهو سبحانه لايخلف الميعاد وقيل : لايعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بذلك وما سواه من قرة عينها وذهاب حزنها تبع وفيه أن الذي يفيده الكلام إنما هو كون كل من قرة العين والعلم كالغرض أو غرضا مستقلا وأما تبعية غير العلم له لاسيما مع تقدم الغير فلا وكون المفيد لذلك حذف حرف العلة من الأول لايخفى حاله وفي قوله تعالى : ولكن أكثر الناس الخ قيل : تعريض بما فرط من أمه حين سمعت بوقوعه في يد فرعون من الخوف والحيرة وأنت تعلم أن ما عراها كان من مقتضيات الجبلة البشرية وهو يجامع العلم بعدم وقوع ما يخاف منه ونفي العلم في مثل ذلك إنما يكون بضرب من التأويل كما لا يخفى ثم ان الاسدراك على ما اختاره مما وقع بعد العلم وجوز أن يكون من نفس العلم وذلك إذا كان المعنى لايعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بحقية وعد الله تعالى فتأمل
ولما بلغ أشده أي المبلغ الذي لايزيد عليه نشؤه وقوله تعالى : واستوى أي كمل وتم تأكيد وتفسير لما قبله كذا قيل : واختلف في زمان بلوغ الاشد والاستواء فاخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال الاشد ما بين الثماني عشر إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الاربعين فاذا زاد على الاربعين أخذ في النقصان وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال الاشد ثلاث وثلاثون سنة والاستواء اربعون سنة وهي رواية عن ابن عباس أيضا وروي نحوه عن قتادة وقال الزجاج مرة بلوغ الاشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الاربعين واخرى هو ما بين الثلاثين إلى الاربعين واختاره بعضهم هنا وعلل بأن ذلك لموافقته قوله تعالى : حتى إدا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة لأن يشعر بانه منته إلى الاربعين وهي سنة الوقوف فينبغي أن يكون مبدؤه مبدأه ولا يخلو عن شيء والحق أن بلوغ الاشد في الاصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت انتهاء النمو وغايته وهذا مما يختلف باختلاف الاقاليم والاعصار والاحوال ولذا وقع له تفاسير في كتب اللغة والتفسير ولعل الاول على ما قيل : أن يقال إن بلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقواه الجسمانية وينتهي فيه نموه المعتد به والاستواء اعتدال عقله وكماله ولا ينبغي تعيين وقت لذلك في حق موسى عليه السلام إلا بخبر يعول عليه لما سمعت من أن ذاك مما يختلف باختلاف الاقاليم والاعصار والاحوال نعم اشتهر أن ذلك في الأغلب يكون في سن اربعين وعليه قول الشاعر :

الصفحة 51