كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 20)

اعتراه من الغضب فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله فقال ما قال على عادة المقربين في استعضامهم خلاف الأولى ثم إن هذا الفعل وقع منه عليه السلام قبل النبوة كما هو ظاهر قوله تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء : ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وبذلك قال النقاش وغيره وروي عن كعب أنه عليه السلام كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ومن فسر الاستواء ببلوغ اربعين سنة وجعل ما ذكر بعد بلوغ الأشد والاستواء وإيتاء الحكم والعلم بالمعنى الذي لا يقتضي النبوة يلزمه أن يقول كان عليه السلام إذ ذاك ابن أربعين سنة أو ما فوقها بقليل
وزعم بعضهم أنه عليه السلام أراد بقوله : ظلمت نفسي اني عرضتها للتلف بقتل هذا الكافر إذ لو عرف فرعون ذلك لقتلني به وأراد بقوله : فاغفر لي فاستر على ذلك وجعله من عمل الشيطان لما فيه من الوقوع في الوسوسة وترقب المحذور ولا يخفى ما فيه ويأبى عنه قوله تعالى : فغفر له إنه الغفور الرحيم
61
- وترتب غفر على ما قبله بالفاء يشعر بأن المراد غفر له استغفاره وجملة إنه الخ كالتعليل للعلية أي أنه تعالى هو المبالغ في مغفرة ذنبو عباده ورحمتهم ولذا كان استغفاره سببا للمغفرة له وتوسيط قال بين كلاميه عليه السلام لما بينهما من المخالفة من حيث إن الثاني مناجاة ودعاء بخلاف الأول وأما توسيط قال في قوله تعالى : قال رب بما أنعمت علي فوجهه ظاهر والباء في بما للقسم وما مصدرية وجواب القسم محذوف أي أقسم بانعامك علي لأمتنعن عن مثل هذا الفعل
وقيل : لأتوبن وقوله تعالى : فلن أكون ظهيرا للمجرمين
71
- عطف على الجواب ولعل المراد بانعامه تعالى عليه حفظه إياه من شر فرعون ورده إلى أمه وتمييزه على سائر بني إسرائيل ونحو ذلك
وقيل المراد به مغفرته له وهو غير بعيد ومعرفته عليه السلام أنه سبحانه غفر له إذا كان هذا القول قبل النبوة بالهام أو رؤيا والظهير المعين والمجرمين جمع مجرم والمراد به من أوقع غيره في الجرم أو من أدت معاونته إلى جرم كالاسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأدت معاونته إلى جرم في نظر موسى عليه السلام فيكون في المجرمين مجاز في النسبة للاسناد إلى السبب وجوز أن يراد بذلك الكفار وعني بهم من استغاثه ونحوه بناء على أنه لم يكن أسلم وقيل : أراد بالمجرمين فرعون وقومه والمعنى أقسم بانعامك علي لاتوبن فلن أكون معينا للكفار بأن أصحبهم وأكثر سوادهم وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ولا يخفى أن ما تقدم أنسب بالمقام وجوز أن تكون الباء للقسم الاستعطافي على أنها متعلقة بفعل دعاء محذوف وجملة فلن أكون الخ متفرعة عليه والفاء واقعة في جواب الدعاء أو الشرط المقدر أي بحق انعامك علي اعصمني فلم أكون الخ أو إن عصمتني فلن أكون الخ والقسم الاستعطافي ما أكد به جملة طلبية نحو قولك بالله تعالى زرني وغير الاستعطافي ما أكد به جملة خبرية نحو والله تعالى لأقومن وإلى هذا ذهب ابن الحاجب وقيل : القسم الاستعطافي ما مان المقسم به مشعرا بعطف وحنو نحو بكرمك الشامل أنعم علي وهو صادق على ما هنا وغير الاستعطافي ما كان المقسم به أعم من ذلك وعلى القولين هما قسمان من مطلق القسم وظاهر كلام الزمخشري أن المتبادر من القسم ما يؤكد به الكلام الخبري وينعقد منه يمين فما يكون المراد به الاستعطاف

الصفحة 55