كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)

سبحانه : وما تدري نفس بأي أرض تموت عطف على ما أستظهره صاحب الكشف على قوله تعالى إن الله عنده علم الساعة وأشار إلى أنه لما كان الكلام مسوقا للإختصاص لا لإفادة أصل العلم له تعالى فإنه غير منكر لزم من النفي على سبيل الإستغراق إختصاصه به عزوجل على سبيل الكناية على الوجه الأبلغ وفي العدول عن لفظ العلم إلى لفظ الدراية لما فيها من معنى الختل والحيلة لأن أصل درى رمى الدرية وهي الحلقة التي يقصد رميها الرماة وما يتعلم عليه الطعن والناقة التي يسيبها الصائد ليأنس بها الصيد فيستتر من ورائها فيرميه وفي كل حيلة ولكونها علما بضرب من الختل والحيلة لا تنسب إليه عزوجل إلا إذا أولت بمطلق العلم كما في خبر خمس لا يدريهن إلا الله تعالى وقيل : قد يقال الممنوع نسبتها إليه سبحانه بإنفراده تعالى أما مع غيره تبارك أسمه تغليبا فلا ويفهم من كلام بعضهم صحة النسبة إليه جل وعلا على سبيل المشاكلة كما في قوله :
لا هم لا أدري وأنت الداري
فلا حاجة إلى ما قيل : إنه كلام إعرابي جلف لا يعرف ما يجوز إطلاقه على الله تعالى وما يمتنع فيكون المعنى لا تعرف كل نفس وإن أعملت حيلها ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد وأبعد وقد روعي في هذا الأسلوب الإدماج المذكور ولذا لم يقل : ويعلم ماذا تكسب كل نفس ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت وجوز أن يكون أصل وينزل الغيث وأن ينزل الغيث فحذف أن وأرتفع الفعل كما في قوله :
أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وكذا قوله سبحانه : ويعلم ما في الأرحام والعطف على علم الساعة فكأنه قيل : إن الله عنده علم الساعة وتنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام ودلالة ذلك على إختصاص علم تنزيل الغيث به سبحانه ظاهر لظهور أن المراد بعنده تنزيل الغيث عنده علم تنزيله وإذا عطف ينزل على الساعة كان الإختصاص أظهر لإنسحاب علم المضاف إلى الساعة إلى الإنزال حينئذ فكأنه قيل : إن الله عنده علم الساعة وعلم تنزيل الغيث وهذا العطف لا يكاد يتسنى في ويعلم إذ يكون التقدير وعدنه علم علم ما في الأرحام وليس ذاك بمراد أصلا
وجعل الطيبي وما تدري نفس إلخ معطوفا على خبر إن من حيث المعنى بأن يجعل المنفي مثبتا بأن يقال : ويعلم ماذا تكسب كل نفس غدا ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت وقال : إن مثل ذلك جائز في الكلام إذا روعي نكتة كما في قوله تعالى : أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا فإن العطف فيه بإعتبار رجوع التحريم إلى ضد الإحسان وهي الإساءة وذكر في بيان نكتة العدول عن المثبت إلى المنفي نحو ما ذكرنا آنفا وتعقب ذلك صاحب الكشف بأن عنه مندوحة أي بما ذكر من عطفه على جملة إن الله عنده علم الساعة وقال الإمام : في وجه نظم الجمل ألحق أنه تعالى لما قال : وأخشوا يوما إلخ وذكر سبحانه أنه كائن بقوله عزوجل قائلا : إن وعد الله حق فكأن قائلا يقول : فمتى هذا اليوم فأجيب بأن هذا العلم مما لم يحصل لغيره تعالى وذلك قوله سبحانه : إن الله عنده علم الساعة ثم ذكر جل وعلأ الدليلين اللذين ذكرا مرارا عل البعث أحدهما إحياء الأرض بعد موتها المشار إليه بقوله تعالى : وينزل الغيث والثاني الخلق إبتداء المشار إليه بقوله سبحانه : ويعلم ما في الأرحام فكأنه قال عزوجل : ياأيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله تعالى قادر عليها كما هو سبحانه قادر على إحياء الأرض وعلى

الصفحة 110