كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)

ولا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة ولا في أي شهر أليلا أم نهارا وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث أليلا أم نهارا ويعلم ما في الأرحام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكرا أم أنثى أحمر أو أسود ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا أخيرا أم شرا وما تدري بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في بر في سهل أم في جبل والذي ينبغي أن يعلم أن كل غيب لا يعلمه إلا الله عزوجل وليس المغيبات محصورة بهذه الخمس وإنما خصت بالذكر لوقوع السؤال عنها أو لأنها كثيرا ما تشتاق النفوس إلى العلم بها وقال القسطلاني : ذكر خمسا وإن كان الغيب لا يتناهى لأن العدد لا ينفي زائدا عليه ولأن هذه الخمسة هي التي كانوا يدعون علمها إنتهى وفي التعليل الأخير نظر لا يخفى وأنه يجوز أن يطلع الله تعالى بعض أصفيائه على إحدى هذه الخمس ويرزقه عزوجل العلم بذلك في الجملة وعلمها الخاص به جل وعلا ما كان على وجه الإحاطة والشمول لأحوال كل منها وتفصيله على الوجه الأتم وفي شرح المناوي الكبير للجامع الصغير في الكلام على حديث بريدة السابق خمس لا يعلمهن إلا الله على وجه الإحاطة والشمول كليا وجزئيا فلا ينافيه إطلاع الله تعالى بعض خواصه على بعض المغيبات حتى من هذه الخمس لأنها جزئيات معدودة وإنكار المعتزلة لذلك مكابرة إنتهى ويعلم مما ذكرنا وجه الجمع بين الأخبار الدالة على إستئثار الله تعالى بعلم ذلك وبين ما يدل على خلافه كبعض أخباراته عليه الصلاة و السلام بالمغيبات التي هي من هذا القبيل يعلم ذلك من راجع نحو الشفاء والمواهب اللدنية مما ذكر فيه معجزاته وأخباره عليه الصلاة و السلام بالمغيبات وذكر القسطلاني أنه عزوجل إذا أمر بالغيث وسوقه إلى ما شاء من الأماكن علمته الملائكة الموكلون به ومن شاء سبحانه من خلقه عزوجل وكذا إذا أراد تبارك وتعالى خلق شخص في رحم يعلم سبحانه الملك الموكل بالرحم بما يريد جل وعلا كما يدل عليه ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي قال إن الله تعالى وكل بالرحم ملكا يقول : يارب نطفة يارب علقة يارب مضغة فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه قال : أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق والأجل فيكتب في بطن أمه فحينئذ يعلم بذلك الملك ومن شاء الله تعالى من خلقه عزوجل وهذا لا ينافي الإختصاص والإستئثار بعلم المذكورات بناء على ما سمعت منا من أن المراد بالعلم الذي أستأثر سبحانه به العلم الكامل بأحوال كل على التفصيل فمما يعلم به الملك ويطلع عليه بعض الخواص يجوز أن يكون دون ذلك العلم بل هو كذلك في الواقع بلا شبهة وقد يقال فيما يحصل للأولياء من العلم بشيء مما ذكر إنه ليس بعلم يقيني قال : على القاريءفي شرح الشفا : الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء لكن علمهم لا يكون يقينيا وإلهامهم لا يفيد إلا أمرا ظنيا ومثل هذا عندي بل هو دونه بمراحل النجومي ونحوه بواسطة أمارات عنده بنزول الغيث وذكورة الحمل أو أنوثته أو نحو ذلك ولا أرى كفر من يدعي مثل هذا العلم فإنه ظن عن أمر عادي وقد نقل العسقلاني في فتح الباري عن القرطبي أنه قال : من إدعى علم شيء من الخمس غير مسنده إلى رسول الله كان كاذبا في دعواه وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم وعليه فقول القسطلاني من إدعى علم شيء منها فقد كفر بالقرآن العظيم ينبغي أن يحمل العلم فيه على نحو العلم الذي أستأثر الله تعالى به دون مطلق العلم الشامل للظن وما يشبهه وبعد هذا كله أن أمر الساعة أخفى الأمور المذكورة وأن ما أطلع الله تعال ىعليه نبيه من وقت قيامها في غاية الإجمال وإن كان أتم من علم غيره من البشر
وقوله عليه الصلاة و السلام : بعثت أنا والساعة كهاتين لا يدل على أكثر من العلم الإجمالي بوقتها ولا أظن أن خواص

الصفحة 112