كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)

الناس من يشتري لهو الحديث هو ما يشغل عن الله تعالى ذكره ويحجب عنه عزوجل إستماعه وأما الفناء فهو عند كثير منهم أقسام منها ما هو من لهو الحديث ونقل بعضهم عن الجنيد قدس سره أنه قال : السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم وعن أبي بكر الكتاني سماع العوام على متابعة الطبع وسماع المريدين رغبة ورهبة وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعم وسماع العارفين على المشاهدة وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان ولكل من هؤلاء مصدر ومقام وذكروا أن من القوم من يسمع في الله ولله وبالله ومن الله جل وعلا ولا يسمع بالسمع الإنساني بل يسمع بالسمع الرباني كما في الحديث القدسي كنت سمعه الذي يسمع به وقالوا : إنما حرم اللهو لكونه لهوا فمن لا يكون لهوا بالنسبة إليه لا يحرم عليه إذ علة الحرمة في حقه منتفية والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ويلزمهم القول بحل شرب المسكر لمن لا يسكره لا سيما لمن يزيده نشاطا للعبادة مع ذلك ومن زنادقة القلندرية من يقول بحل الخمر والحشيشة ونحوها من المسكرات المحرمة بلا خلاف زاعمين أن إستعمال ذلك يفتح عليهم أبواب الكشوف وبعض الجهلة الذين لعب بهم الشيطان يطلبون منهم المدد في ذلك الحال قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون ولقد آتينا لقمان الحكمة قيل : هي إدراك خطاب الحق بوصف الإلهام وذكروا أن الحكمة موهبة الأولياء كما أن الوحي موهبة الأنبياء عليهم السلام فكل ليس بكسبي إلا أن للكسب مدخلا ما في الحكمة فقد ورد من أخلص لله تعالى أربعين صبا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه والحكمة التي يزعم الفلاسفة أنها حكمة ليست بحكمة إذ هي من نتائج الفكر ويؤتاها المؤمن والكافر وقلما تسلم من شوائب آفات الوهم ولهذا وقع الإختلاف العظيم بين أهلها وعدها بعض الصوفية من لهو الحديث ولم يبعد في ذلك عن الصواب وأشارت قصة لقمان إلى التوحيد ومقام جمع الجمع وعين الجمع وإتباع سبيل الكاملين والإعراض عن السوي وتكميل الغير والصبر على الشدائد والتواضع للناس وحسن المماشاة والمعاملة والسيرة وترك التماوت في المشي وترك رفع الصوت وقيل : الحمير في قوله تعالى : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير هم الصوفية الذين يتكلمون بلسان المعرفة قبل أن يؤذن لهم وطبق بعضهم جميع ما في القصة على ما في الأنفس وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة قال الجنيد : النعم الظاهرة حسن الأخلاق والنعم الباطنة أنواع المعارف وقيل : على قراءة الأفراد النعمة الظاهرة إتباع ظاهر العلم والباطنة طلب الحقيقة في الإتباع وقيل : النعمة الظاهرة نفس بلا زلة والباطنة قلب بلا غفلة
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير يشير إلى أهل الجدل من الفلاسفة فإنهم يجادلون في ذات الله تعالى وصفاته عزوجل كذلك عند التحقيق لأنهم لا يعتبرون كلام الرسل عليهم الصلاة والسلام ولا الكتب المنزلة من السماء وأكثر علومهم مشوب بآفة الوهم ومع هذا فشؤون الله جل وعلا طور ما وراء طور العقل
هيهات أن تصطاد عنقاء البقا بلعابهن عناكب الأفكار وأبعد من محدب الفلك التاسع حصول علم بالله عزوجل وبصفاته جل شأنه يعتد به بدون نور إلهي يستضيء العقل به وعقولهم في ظلمات بعضها فوق بعض وقد سدت أبواب الوصول إلا على متبع للرسول قال بعضهم مخاطبا لحضرة صاحب الرسالة عليه الصلاة و السلام : وأنت باب الله أي أمريء أتاه من غيرك لا يدخل

الصفحة 114