كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)
أبصرنا وسمعنا أي صرنا ممن يبصر ويسمع وحصل لنا الإستعداد لإدراك الآيات المبصرة والآيات المسموعة وكنا من قبل عميا صما لا ندرك شيئا فأرجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا حسبما تقتضيه تلك الآيات وهذا على ما قيل إدعاء منهم لصحة مشعري البصر والسمع وقوله تعالى : إنا موقنون 21 إستئناف لتعليل ما قبله وقيل : إستئناف لم يقصد به التعليل وعلى التقديرين هو متضمن لأدعائهم صحة الأفئدة والإقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بما يوجبها وفيه من إظهار الثبات على الإيقان وكمال رغبتهم فيه ما فيه وكأنه لذلك لم يقولوا : أبصرنا وسمعنا وأيقنا فأرجعنا إلخ ولعل تأخير السمع لأن أكثر العمل الصالح الموعود يترتب عليه دون البصر فكان عدم الفصل بينهما بالبصر أولى ويجوز أن يقدر لكل من الفعلين مفعول مناسب له مما يبصرونه ويسمعونه بأن يقال : أبصرنا بالبعث الذي كنا ننكره وما وعدتنا به على إنكاره وسمعنا منك ما يدل على تصديق رسلك عليهم السلام ويراد به نحو قوله تعالى : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا لا الأخبار الصريح بلفظ أن رسلي صادقون مثلا أو يقال أبصرنا البعث وسمعنا قول الرسل أي سمعناه سمع طاعة وإذعان أو يقال : أبصرنا قبح أعمالنا التي كنا نراها في الدنيا حسنة وسمعنا قول الملائكة لنا إن مردكم إلى النار وقيل : أرادوا أبصرنا رسلك وسمعنا كلامهم حين كنا في الدنيا أو أبصرنا آياتك التكوينية وسمعنا آياتك التنزيلية في الدنيا فلك الحجة علينا وليس لنا حجة فأرجعنا إلخ ولا يخفى حال هذا القيل وعلى سائر هذه التقادير وجه تقديم الإبصار على السماع ظاهر و لو هي التي سماها غير واحد إمتناعية وجوابها محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا لا يقادر قدره
والخطاب في : ترى لكل واحد ممن يصح منه الرؤية إذ المراد بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الفظاعة إلى حيث لا يختص إستغرابها بها وإستفظاعها براء دون راء ممن أعتاد مشاهدة الأمور البديعة والدواهي الفظيعة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعته وقيل : لأن القصد إلى بيان أن حالهم قد بلغت من الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها البتة فلا يختص برؤيتها راء دون راء والجواب المقدر أوفق بما ذكر أولا والفعل منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول أي لو تكن منك رؤية في ذلك الوقت لرأيت أمرا فظيعا وجوز أن يكون الخطاب خاصا بسيد المخاطبين و لو للتمني كأنه قيل : ليتك ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم لتشمت بهم وحكم التمني منه تعالى حكم الترجي وقد تقدم ولا جواب لها حينئذ عند الجمهور وقال أبو حيان وإبن مالك : لا بد لها من الجواب إستدلالا بقول مهلهل في حرب البسوس : فلو نبش المقابر عن كليب فيخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعثمين لقر عينا وكيف لقاء من تحت القبور فإن لو فيه للتمني بدليل نصب فيخبر وله جواب وهو قوله لقر ورد بأنها شرطية ويخبر عطف على مصدر متصيد من نبش كأنه قيل : لو حصل نبش فأخبار ولا يخفى ما فيه من التكلف وقال الخفاجي عليه الرحمة : لو قيل : إنها لتقدير التمني معها كثيرا أعطيت حكمه وأستغنى عن تقدير الجواب فيها إذا لم يذكر كما في الوصلية ونصب جوابها كان أسهل مما ذكر وجوز أن يقدر لترى مفعول دل عليه ما بعد أي لو ترى المجرمين أو لو ترى نكسهم رؤسهم والمضي في لو الإمتناعية وإذ لأن أخباره تعالى عما تحقق في علمه الأزلي لتحققه بمنزلة الماضي