كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)

فيستعمل فيه ما يدل على المضي مجازا كلو وإذ هذا ومن الغريب قول أبي العباس في الآية : المعنى قل يامحمد للمجرم ولو ترى وقد حكاه عنه أبو حيان ثم قال : رأى أن الجملة معطوفة على يتوفاكم داخلة تحت قل السابق ولذا لم يجعل الخطاب فيه للرسول عليه الصلاة و السلام إنتهى كلامه فلا تغفل
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها مقدر بقول معطوف عل ىمقدر قبل قوله تعالى : ربنا أبصرنا إلخ وهو جواب لقولهم أرجعنا يفيد أنهم لو أرجعوا لعادوا لما نهوا عنه لسوء إختيارهم وأنهم ممن لم يشأ الله تعالى أعطاءهم الهدى أي ونقول : لو شئنا أي لو تعلقت مشيئتنا تعلقا فعليا بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة هداها أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح وفسره بعضهم بنفس الإيمان والعمل الصالح والأول أولى وأما تفسيره بما سأله الكثرة من الرجوع إلى الدنيا أو بالهداية إلى الجنة فليس بشيء لأعطيناها إياه في الدنيا التي هي دار الكسب وما أخرناه إلى دار الجزاء ولكن حق القول مني أي ثبت وتحقق قولي وسبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين : فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وهو المعنى بقوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين 31 كما يلوح به تقديم الجنة على الناس فإنه في الخطاب لإبليس مقدم وتقديمه هناك لأنه الأوفق لمقام تحقير ذلك المخاطب عليه اللعنة وقيل : التقديم في الموضعين لأن الجهنميين من الجنة أكثر
ويعلم مما ذكرنا وجه العدول عن ضمير العظمة في قوله سبحانه : ولو شئنا لآتينا إلى ضمير الوحدة في قوله جل وعلا : ولكن حق القول مني وذلك لأن ما ذكر إشارة إلى ما وقع في الرد على اللعين وقد وقع فيه القول والإملاء مسدين إلى ضمير الوحدة ليكون الكلام على طرز لأغوينهم أجمعين إلا عبادك في توحيد الضمير وقد يقال : ضمير العظمة أوفق بالكثرة الدال عليها كل نفس والضمير الآخر أوفق بما دون تلك الكثرة الدال عليه من الجنة والناس أو يقال إنه وحد الضمير في الوعيد لما أن المعنى به المشركون فكأنه أخرج الكلام على وجه لا يتوهم فيه متوهم نوعا من أنواع الشركة أصلا أو أخرج على وجه يلوح بما عدلوا عنه من التوحيد إلى ما أرتكبوه مما أوجب لهم الوعيد من الشرك أو يقال : وحد الضمير في لأملأن لأن الإملاء لا تعدد فيه فتوحيد الضمير أوفق به ويقال نظير ذلك في حق القول مني والإيتاء يتعدد بتعدد المؤتى فضمير العظمة أوفق به ويقال نظيره في شئنا فتدبر ولا يلزم من قوله تعالى : أجمعين دخول جميع الجن والإنس فيها وأما قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها فالورود فيه غير الدخول وقد مر الكلام في ذلك لأن أجمعين تفيد عموم الأنواع لا الأفراد فالمعنى لأملائنها من ذينك النوعين جميعا كملأت الكيس من الدراهم والدنانير جميعا كذا قيل ورد بأنه لو قصد ما ذكر لكان المناسب التثنية دون الجمع بأن يقال كليهما وأستظهر أنها لعموم الأفراد والتعريف في الجنة والناس للعهد والمراد عصاتهما ويؤيده الآية المتضمنة خطاب إبليس وحاصل الآية لو شئنا إيتاء كل نفس هداها لآتيناها إياه لكن تحق القول مني لأملأن جهنم إلخ فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم بل منعناه من أتباع إبليس الذين أنتم من جملتهم حيث صرفتم إختياركم إلى الغي بإغوائه ومشيئتنا لأفعال العباد منوطة بإختيارهم إياها فلما لم تختاروا الهدى وأخترتم الضلال لم نشأ إعطاءه لكم وإنما أعطيناه الذين أختاروه من البررة وهم المعنيون بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه إنما يؤمن بآياتنا الآية

الصفحة 128