كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)
وترككم التفكر فيه والتزود له بالكلية وهذا تصريح بسبب العذاب من قبلهم فلا ينافي أن يكون له سبب آخر حقيقيا كان أو غيره والتوبيخ به من بين الأسباب لظهوره وكونه صادرا منهم لا يسعهم إنكاره والمراد بنسيانهم ذلك تركهم التفكر فيه والتزود له كما أشرنا إليه وهو بهذا المعنى إختياري يوبخ عليه ولا يكاد يصح إرادة المعنى الحقيقي وإن صح التوبيخ عليه بإعتبار تعمد سببه من الإنهماك في إتباع الشهوات ومثله في كونه مجازا النسيان في قوله تعالى : أنا نسيناكم أي تركناكم في العذاب ترك المنسي بالمرة وجعل بعضهم هذا من باب المشاكلة ولم يعتبر كون الأول مجازا مانعا منها قيل : والقرينة على قصد المشاكلة فيه إنه قصد جزاؤهم من جنس العمل فهو على حد وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله تعالى : وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون 41 تكرير للتأكيد والتشديد وتعيين المفعول المبهم للذوق والأشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان بل له أساب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا ولما كان فيه زيادة على الأول حصلت به مغايرته له أستحق العطف عليه ولم ينظم الكل في سلك واحد للتنبيه على إستقلال كل من النسيان وما ذكر في إستيجاب العذاب وفي إبهام المذوق أولا وبيانه ثانيا بتكرير الأمر وتوسيط الإستئناف المنبيء عن كمال السخط بينهما من الدلالة على غاية التشديد في الإنتقام منهم ما لا يخفى
وقوله تعالى : إنما يؤمن بآياتنا إستئناف مسوق لتقرير عدم إستحقاقهم ليتاء الهدى والأشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل : إنكم لا تؤمنون بآياتنا الدالة على شؤوننا ولا تعملون بموجبها عملا صالحا ولو أرجعناكم إلى الدنيا وإنما يؤمن الذين إذا ذكروا بها أي وعظوا خروا سجدا أثر ذي أثير من غير تردد ولا تلعثم فضلا عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد والوعيد أي سقطوا ساجدين تواضعا لله تعالى وخشوعا وخوفا من عذابه عزوجل قال أبو حيان : هذه السجدة من عزائم سجود القرآن وقال إبن عباس : السجود هنا الركوع
وروى عن إبن جريج ومجاهد أن الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب إبن عباس أن القاريء لآية السجدة يركع وأستدل بقوله تعالى : وخر راكعا وأناب
ولا يخفى ما في الإستدلال من المقال وسبحوا بحمد ربهم أي ونزهوه تعالى عند ذلك عن كل ما لا يليق به سبحانه من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه جل وعلا التي أجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق إلى الإهتداء بها فالحمد في مقابلة النعمة والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الإلتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للأشعار بعلة التسبيح والتحميد بأنهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم وهم لا يستكبرون 51 عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبرا كأن لم يسمع الآيات والجملة عطف على الصلة أو حال من أحد ضميري خروا وسبحوا وجوز عطفها على أحد الفعلين وقوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع جملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم
وجوز أن تكون حالية أو خبرا ثانيا للمبتدأ والتجافي البعد والأرتفاع والجنوب جمع جنب الشقوق وذكر