كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)

أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا أي أبعد ظهور ما بينهما من التباين البين يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه الفاضلة كالفاسق الذي ذكرت أحواله القبيحة العاطلة وأصل الفسق الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها ثم أستعمل في الخروج عن الطاعة وأحكام الشرع مطلقا فهو أعم من الكفر وقد يخص به كما في قوله تعالى : ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وكما هنا لمقابلته بالمؤمن مع ما ستسمعه بعد أن شاء الله تعالى : لا يستوون 81 التصريح به مع إفادة الإنكار لنفي المشابهة بالمرة على أبلغ وجه وآكده لزيادة التأكيد وبناء التفصيل الأتي عليه والجمع بإعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق بإعتبار لفظها وقيل : الضمير لإثنين وهما المؤمن والكافر والتثنية جمع
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى تفصيل لمراتب الفريقين بعد نفي إستوائهما وقيل : بعد ذكر أحوالهما في الدنيا وأضيفت الجنان إلى المأوى لأنها المأوى والمسكن الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة وقيل : المأوى علم لمكان مخصوص من الجنان كعدن وقيل : جنة المأوى لما روى عن إبن عباس أنها تأوى إليها أرواح الشهداء وروى أنها عن يمين العرش ولا يخفى ما في جعله علما من البعد وأياما كان فلا يبعد أن يكون فيه رمز إلى ما ذكر من تجافيهم عن مضاجعهم التي هي مأواهم في الدنيا
وقرأ طلحة جنة المأوى بالأفراد نزلا أي ثوابا وهو في الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب والصلة ثم عم كل عطاء وإنتصابه على أنه حال من جنات والعامل فيه الظرف وجوز أن يكون جمع نازل فيكون حالا من ضمير الذين آمنوا وقرأ أبو حيوة نزلا بإسكان الزاي كما في قوله
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمهرفات له نزلا بما كانوا يعملون 91 أي بسبب الذي كانوا يعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة على أن ما موصولة والعائد محذوف والباء سببية وكون ذلك سببا بمقتضى فضله تعالى ووعده عزوجل فلا ينافي حديث ولا يدخل أحدكم الجنة بعمله ويجوز أن تكون الباء للمقابلة والمعارضة كعلي في نحو بعتك الدار على ألف درهم أي فلهم ذلك على الذي كانوا يعملونه
وأما الذين فسقوا أي خرجوا عن الطاعة فكفروا وأرتكبوا المعاصي فمأواهم أي فمسكنهم ومحلهم النار وذكر بعضهم أن المأوى صار متعارفا فيما يكون ملجا للشخص ومستراحا يستريح إليه من الحر والبرد و وهما فإذا أريد هنا يكون في الكلام إستعارة تهكمية كما في قوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم وجوز أن يكون إستعمال ذلك من باب المشاكلة لأنه لما ذكر في أحد القسمين فلهم جنات المأوى ذكر في الآخر فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا إستئناف لبيان كيفية كون النار مأواهم والكلام على حد قوله تعالى : جدارا يريد أن ينقض على ما قيل والمعنى كلما شارفوا الخروج منها وقربوا منه أعيدوا فيها ودفعوا إلى قعرها فقد روى أنهم بضربهم لهب النار فيرتفعون إلى أعلاها حتى إذا قربوا من بابها وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها وهكذا يفعل بهم أبدا وقيل : الكلام على ظاهره إلا أن فيه حذفا أي

الصفحة 133