كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)

وإن الله المتصف بجميع صفات الكمال الذي بلغت عظمته في القلوب ما بلغت لمع المحسنين 96 معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد المحتاج لهما قرينة قوية على إرادة ذلك وقال العلامة الطيبي : إن قوله تعالى : لمع المحسنين قد طابق قوله سبحانه : جاهدوا لفظا ومعنى أما اللفظ فمن حيث الإطلاق في المجاهدة والمعية وأما المعنى فالمجاهد للأعداء يفتقر إلى ناصر ومعين ثم إن جملة قوله عزوجل : إن الله لمع المحسنين تذييل للآية مؤكد بكلمتي التوكيد محلي بأسم الذات ليؤذن بأن من جاهد بكليته وشراشره في ذاته جل وعلا تجلى له الرب عز أسمه الجامع في صفة النصرة والإعانة تجليا تاما ثم إن هذه خاتمة شريفة للسورة لأنها مجاوبة لمفتتحها ناظرة إلى فريدة قلادتها أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون لامحة إلى واسطة عقدها ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فأعبدون وهي في نفسها جامعة فاذة
و أل في المحسنين يحتمل أن تكون للعهد فالمراد بالمحسنين الذين جاهدوا ووجه إقامة الظاهر مقام الضمير ظاهر وإلى ذلك ذهب الجمهور ويحتمل أن يكون للجنس فالمراد بهم مطلق جنس من أتى بالأفعال الحسنة ويدخل أولئك دخولا أوليا برهانيا وقد روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر المحسنين بالموحدين وفيه تأييد ما للإحتمال الثاني والله تعالى أعلم
ومن باب الإشارة في الآيات أحسب الناس أن يتركوا الآية قال إبن عطاء : ظن الخلق إنهم يتركون مع دعاوى المحبة ولا يطالبون بحقائقها وهي صب البلاء على المحب وتلذذه بالبلاء الظاهر والباطن وهذا كما قال العارف إبن الفارض قدس سره : وتعذيبكم عذب لدى وجوركم على بما يقضي الهوى لكم عدل وذكروا أن المحبة والمحنة توأمان وبالإمتحان يكرم الرجل أو يهان ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله إشارة إلى حال الكاذبين في دعوى المحبة وهم الذين يصرفون عنها بأذى الناس لهم إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فأبتغوا عند الله الرزق وأعبدوه وأشكروا له إليه ترجعون قال إبن عطاء : أي أطلبوا الرزق بالطاعة والإقبال على العبادة وقال سهل : أطلبوه في التوكل لا في المكسب فإن طلب الرزق فيه سبيل العوام وقال إني مهاجر إلى ربي أي مهاجر من نفسي ومن الكون إليه عزوجل وقال إبن عطاء : أي راجع إلى ربي من جميع مالي وعلي والرجوع إليه عزوجل بالإنفصال عما دونه سبحانه ولا يصح لأحد الرجوع إليه تعالى وهو متعلق بشيء من الكون بل لا بد أن ينفصل من الأكوان أجمع وتأتون في ناديكم المنكر سئل الجنيد قدس سره عن هذه الآية فقال : كل شيء يجتمع الناس عليه إلا الذكر فهو منكر مثل الذين أتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت إتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت أشار سبحانه وتعالى إلى من أعتمد على غير الله عزوجل في أسباب الدنيا والآخرة فهو منقطع عن مراده غير واصل إليه قال إبن عطاء : من أعتمد شيئا سوى الله تعالى كان هلاكه في نفس ما أعتمد عليه ومن أتخذ سواه عزوجل ظهيرا قطع عن نفسه سبيل العصمة ورد إلى حوله وقوته
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون فيه إشارة إلى أن دقائق المعارف لا يعرفها إلا اصحاب الأحوال العالمون به تعالى وبصفاته وسائر شئونه سبحانه لأنهم علماء المنهج وذكر أن العالم على الحقيقة من

الصفحة 15