كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)

على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرن الله تعالى عينكم فوالله تعالى ليظهرن الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فقام إليه أبي بن خلف فقال : كذبت فقال له : أبو بكر رضي الله تعالى عنه : أنت أكذب ياعدو الله تعالى تعال أنا حبك عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين فناحبه ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة و السلام : ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل فخرج أبو بكر فلقى أبيا فقال : لعلك ندمت قال : لا تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل فأجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال : قد فعلت فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبي كفيلا بالخطر إن غلب فكفل به إبنه عبدالرحمن فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبدالرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ومات أبي من جرح جرحه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة
وجاء في بعض الروايات أنهم ظهروا عليهم يوم الحديبية وأخرج الترمذي وحسنه أنه لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه الخطر من ورثة أبي وجاء به إلى النبي فقال عليه الصلاة و السلام : تصدق به وفي رواية أبي يعلى وإبن أبي حاتم وإبن مردويه وإبن عساكر عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة و السلام قال : هذا السحت تصدق به
وأستشكل بأنه إن كان ذلك قبل تحريم القمار كما أخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم والبيهقي عن قتادة والترمذي وصححه عن نيار بن مكرم السلمي وهو الظاهر لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر من آخر القرآن نزولا فما وجه كونه سحتا وإن كان بعد التحريم فكيف يؤمر بالتصدق بالحرام الغير المختلط بغيره وصاحبه معلوم وفي مثل ذلك يجب رد المال عليه فإن قيل : إنه مال حربي والحادثة وقعت بمكة وهي قبل الفتح دار حرب والعقود الفاسدة تجوز فيها عند أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة لم يظهر كونه سحتا وكأني بك تمنع صحة هذه الرواية وإذا لم تثبت صحتها يبقى الأمر بالتصدق وحينئذ يجوز أن يكون لمصلحة رآها رسول الله وهو تصدق بحلال أما إذا كان ذلك قبل تحريم القمار كما هو المعول عليه فظاهر وأما إن كان بعد التحريم فلأن أبا حنيفة ومحمدا قالا بجواز العقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار وأحتجا على صحة ذلك بما وقع من أبي بكر في هذه القصة وقد تظافرت الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينكر عليه المناحبة وإنما أنكر عليه التأجيل بثلاث سنين وأرشده إلى أن يزايدهم وربما يقال على تقدير الصحة : إن السحت ليس بمعنى الحرام بل بمعنى ما يكون سببا للعار والنقص في المروءة حتى كأنه يسحتها أي يستأصلها كما في قوله : كسب الحجام سحت فقد قال الراغب : إن هذا لكونه ساحتا للمروءة لا للدين فكأنه رأى أن تمول ذلك وإن كان حلالا مخل بمروءة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأطلق عليه السحت ولا يأبى ذلك أذنه عليه الصلاة و السلام في المناحبة لما أنها لا تضر بالمروءة أصلا وفيها من إظهار اليقين بصدق ما جاء به النبي ما فيها وكان عليه الصلاة و السلام على ثقة من صلاح الصديق رضي الله تعالى عنه وأنه إذا أمره بالتصدق بما يأخذه ونهاه عن تموله لم يخالفه وقيل : السحت هنا بمعنى ما لا شيء على من أستهلكه وهو أحد إطلاقاته كما في النهاية والمراد هذا الذي لا شيء عليك إذا أستهلكته وتصرفت فيه حسبما تشاء تصدق به كأنه عليه الصلاة و السلام

الصفحة 18