كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)

فكأنه قيل : أقيموا وجوهكم منيبين
وقال الفراء : أي أقم وجهك ومن أتبعك كقوله تعالى : فأستقم كما أمرت ومن تاب معك فلذلك قال سبحانه : منيبين وفي المرشد أن منيبين متعلق بمضمر أي كونوا منيبين لقوله تعالى بعد : ولا تكونوا من المشركين ولا يخفى على المنصف حسن كلام الزمخشري وما ذكر من أن خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم خطاب الأمة يؤكد الدلالة وعلى ذلك المضمر لا أنه يجوز أن يكون منيبين حالا من الضمير في أقم وظاهر كلام الفراء يقتضي كون الحال من مذكور ومحذوف وهو قليل في الكلام وإضمار كونوا مع إضمار فعل ناصب لفطرة الله موجب لكثرة الإضمار وإضماره دون إضمار فيما قبل موجب لإرتكاب خلاف المتبادر هناك والفطرة على ما قال إبن الأثير للحالة كالجلسة والركبة من الفطر بمعنى الإبتداء والإختراع وفسرها الكثير هنا بقابلية الحق والتهيء لإدراكه وقالوا : معنى لزومها الجريان على موجبها وعدم الإخلال به بإتباع الهوى وتسويل شياطين الإنس والجن ووصفها بقوله تعالى : ألتي فطر الناس عليها لتأكيد وجوب إمتثال الأمر وعن عكرمة تفسيرها بدين الإسلام
وفي الخبر ما يدل عليه أخرج إبن مردويه عن حماد بن عمر الصفار قال : سألت قتادة عن قوله تعالى : فطرة الله التي فطر الناس عليها فقال : حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فطرة الله التي فطر الناس عليها دين الله تعالى والمراد بفطرهم دين الإسلام خلقهم قابلين له غير نابين عنه ولا منكرين له لكونه مجاوبا للعقل مساوقا للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما أختاروا عليه دينا آخر ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء والمراد بالناس على التفسيرين جميعهم
وزعم بعضهم أن المراد بهم على التفسير الثاني المؤمنون وليس بشيء وأستشكل الإستغراق بأنه ورد في الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع على الكفر وأجيب بأن معنى ذلك أنه قدر أنه لو عاش يصير كافرا بإضلال غيره له أو بآفة من الآفات البشرية وهذا على ما قيل هو المراد من قوله عليه الصلاة و السلام : الشقي شقي في بطن أمه وذلك لا ينافي الفطر على دين الإسلام بمعنى خلقه متهيأ له مستعدا لقبوله فتأمل فالمقام محتاج بعد إلى تحقيق وقيل : فطرة الله العهد المأخوذ على بني آدم ومعنى فطرهم على ذلك على ما قيل خلقهم مركوزا فيهم معرفته تعالى كما أشير إليه بقوله سبحانه : ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقوله سبحانه : لا تبديل لخلق الله تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الإمتثال به فالمراد بخلق الله فطرته المذكورة أولا ففيه إقامة المظهر مقام المضمر من غير لفظه السابق والمعنى لا صحة ولا إستقامة لتبديل فطرة الله تعالى بالإخلال بموجبها وعدم ترتيب مقتضاها عليها بإتباع الهوى وقبول وسوسة الشياطين وقيل : المعنى لا يقدر أحد على أن يغير خلق الله سبحانه وفطرته عزوجل فلا بد من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسا ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق والتمكن من إدراكه ضرورة فإن التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعا فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة

الصفحة 40