كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)

لتباينهم في الدارين ويكفي للمبالغة شدة بعد ما بين المنزلتين حسا ومعنى وهو تفسير رواه عبد بن حميد وإبن جرير وإبن المنذر عن قتادة وروى أيضا عن إبن زيد من كفر فعليه كفره اي وبال كفره وهي النار المؤبدة ففي الكلام مضاف مقدر أو الكفر مجاز عن جزائه بل عن جميع المضار التي لا ضرر وراءها وإفراد الضمير بإعتبار لفظ من وفيه إشارة إلى قلة قدرهم عند الله تعالى وحقارتهم مع ما علم من كثرة عددهم وجمعه في قوله تعالى : ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون 44 بإعتبار معناها وفيه مع رعاية الفاصلة إشارة إلى كثرة قدرهم وعظمهم عند الله تعالى و يمهدون من مهد فراشه وطأه أي يوطيء الرجل لنفسه فراشه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينيبه وينغص عليه مرقده من نتوء أو قضض أو بعض ما يؤذي الراقد فكأنه شبه حالة المكلف مع عمله الصالح وما يتحصل به من الثواب ويتخلص من العقاب بحالة من يمهد فراشه ويوظوه ليستريح عليه ولا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه وجوز أن يكون المعنى فعلى أنفسهم يشفقون على أن ذلك من قولهم في المثل للمشفق أم فرشت فأنامت فيكون الكلام كناية إيمائية عن الشفقة والمرحمة والأول أظهر والظاهر أن هذه التوطئة لما بعد الموت من القبر وغيره وأخرج جماعة عن مجاهد أنه قال : فلأنفسهم يمهدون أي يسوون المضاجع في القبر وليس بذاك وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الإختصاص وقيل : للإهتمام ومقابلة من كفر بمن عمل صالحا لا بمن آمن أما للتنويه بشأن الإيمان بناء على أنه المراد بالعمل الصالح وإما لمزيد الإعتناء بشأن المؤمن العامل بناء على أن المراد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي والقالبي ويشعر بأن المراد بمن عمل صالحا المؤمن العامل قوله تعالى : ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله فإنه علة ليمهدون وأقيم فيه الموصول مقام الضمير تعليلا للجزاء لما أن الموصول في معنى المشتق والتعليق به يفيد علية مبدأ الإشتقاق وذكر من فضله للدلالة على أن الإثابة تفضل محض وتأويله بالعطاء أو الزيادة على ما يستحق من الثواب عدول عن الظاهر وجوز أن يكون ذلك علة ليصدعون والإقتصار على جزاء المؤمنين للأشعار بأنه المقصود بالذات والإكتفاء بفحوى قوله تعالى : إنه لا يحب الكافرين 54 فإن عدم المحبة كناية عن البغض في العرف وهو يقتضي الجزاء بموجبه فكأنه قيل : وليعاقب الكافرين وفي الكشاف أن تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده تعالى إلا المؤمن الصالح وقوله تعالى : إنه إلخ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس ويعني بذلك كل كلامين يقرر الأول الثاني وبالعكس سواء كان صريحا وإشارة أو مفهوما ومنطوقا وذلك كقول إبن هانيء : فما جازه جود ولا حل دونه
ولكن يصير الجود حيث يصير وبيانه فيما نحن فيه أن قوله تعالى : ليجزي الذين آمنوا يدل بمنطوقه على ما قرر على إختصاصهم بالجزاء التكريمي وبمفهومه على أنهم أهل الولاية والزلفى وقوله سبحانه : إنه لا يحب الكافرين لتعليل الإختصاص يدل بمنطوقه على أن عدم المحبة يقتضي حرمانهم وبمفهومه على أن الجزاء لإضدادهم موفر فهو جل وعلا محب للمؤمنين وذكر العلامة الطيبي الظاهر أن قوله تعالى : فأقم وجهك للدين القيم الآية بتمامها كالمورد للسؤال والخطاب لكل أحد من المكلفين وقوله تعالى : من كفر فعليه كفره الآية وارد على الإستئناف منطو على

الصفحة 50