كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)
وقرأ الجمهور بضمها فيه والضم والفتح لغتان في ذلك كما في الفقر والفقر الفتح لغة تميم والضم لغة قريش ولذا أختار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قراءة الضم كما ورد في حديث رواه أبو داؤد والترمذي وحسنه وأحمد وإبن المنذر والطبراني والدارقطني وغيرهم عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الله الذي خلقكم من ضعف أي بالفتح فقال : من ضعف يابني أي بالضم لأنها لغة قومه عليه الصلاة و السلام ولم يقصد صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك رد القراءة الأخرى لأنها ثابتة بالوحي أيضا كالقراءة التي أختارها وروى عن عاصم الضم أيضا وعنه أيضا الضم في الأولين والفتح في الأخير وروى عن أبي عبدالرحمن والجحدري والضحاك الضم في الأول والفتح فيما بعد
وقرأ عيسى بضم الضاد والعين وهي لغة أيضا فيه وحكى عن كثير من اللغويين أن الضعف بالضم ما كان في البدن والضعف بالفتح ما كان في العقل والظاهر أنه لا فرق بين المضموم والمفتوح وكونهما مما يوصف به البدن والعقل والمراد بضعف الثاني عين الأول ونكر لمشاكلة قوة وبالأخير غيره فإنه ضعف الشيخوخة وذاك ضعف الطفولية والمراد بقوة الثانية عين الأولى ونكرت لمشاكلة ضعفا وحديث النكرة إذا أعيدت كانت غير أغلبي وتكلف بعضهم لتحصيل المغايرة فيما نكر وكرر في الآية فتدبر يخلق ما يشاء خلقه من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الضعف والقوة والشيبة وخلقها إما بمعنى خلق أسبابها أو محالها وأما إيجادها أنفسها وهو الظاهر ولا داعي للتأويل فإنها ليست بعدم صرف وهو العليم القدير 45 المبالغ في العلم والقدرة فإن الترديد فيما ذكر من الأحوال المختلفة مع إمكان غيره من أوضح دلائل العلم والقدرة
يوم تقوم الساعة أي القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وصارت علما لها بالغلبة كالنجم للثريا والكواكب للزهرة والمراد بقيامها وجودها أو قيام الخلائق فيها يقسم المجرمون ما لبثوا أي ما أقاموا في القبور كما روى عن الكلبي ومقاتل والمراد به ما أقاموا بعد الموت غير ساعة أي قطعة من الزمان قليلة وروى غير واحد عن قتادة أنهم يعنون ما لبثوا في الدنيا غير ساعة ورجح الأول بأنه الأظهر لأن لبثهم مغيا بيوم البعث كما سيأتي إن شاء الله تعالى وليس لبثهم في الدنيا كذلك وقيل : يعنون ما لبثوا فيما بين فناء الدنيا والبعث وهو ما بين النفختين وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما بين النفختين أربعون قيل أربعون يوما يا أبا هريرة قال أبيت قيل أربعون شهرا قال أبيت قيل أربعون سنة قال أبيت وعني بقوله رضي الله تعالى عنه أبيت : أمتنعت من بيان ذلك لكم أو أبيت أن أسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك ولهذا الحديث قيل لا يعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن بعضهم دعوى إتفاق الروايات على أن ما بين النفختين أربعون عاما وأنا أقول : الحق أنه لا يعلمه إلا الله تعالى ودعوى الإتفاق لم يقم عندي دليل عليها
وذكر الزمخشري أن ذلك وقت ينقطع عذابهم فيه وأستقلوا مدة لبثهم كذبا على ما روى عن الكلبي أو نسيانا لما عراهم من هول المطلع على ما قيل وجوز أن يكون إستقلالهم تلك المدة بالإضافة إلى مدة عذابهم يومئذ ولا يبعد علمهم بها سواء كان هذا القول في أول وقت الحشر أو في أثنائه أو بعد دخول النار وجوز أن يكونوا عدوا مدة بقائهم ساعة لعدم إنتفاعهم بها والكثير بلا نفع قليل كما أن القليل مع النفع كثير