كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)

فالكلام تأسف وتحسر على إضاعتهم أيام حياتهم وبين الساعة وساعة جناس تام مماثل كما أطبق عليه البلغاء إلا من لا يعتد به ولا يضر في ذلك إختلاف الحركة الإعرابية ولا وجود أل في إحدى الكلمتين لزيادتها على الكلمة وكذا لا يضر إتحاد مدلولهما في الأصل لأن المعرف فيه كالمنكر بمعنى القطعة من الزمان لمكان النقل في المعرف وصيرورته علما على القيامة كسائر الأعلام المنقولة وأخذ أحدهما من الآخر لا يضر أيضا كما يوضح ذلك ما قرروه في جناس الإشتقاق وظن بعضهم أن الساعة في القيامة مجاز ولذا أنكر التجنيس هنا إذ التجنيس المذكور لا يكون بين حقيقة ومجاز فلا تجنيس في نحو ركبت حمارا ولقيت حمارا معمما تعني رجلا بليدا وأشتهر أنه لم يقع في القرآن الكريم هذا النوع من الجناس إلا في هذا الموضع وأستنبط شيخ الإسلام إبن حجر عليه الرحمة موضعا آخر وهو قوله تعالى يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار لأن الأبصار الأول جمع بصر والأبصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة وتعقب بأنه وإن كان الإبصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة إلا أنه ليس من باب الحقيقة بل بطريق المجاز والإستعارة لأن البصيرة ما تجمع على أبصار بل على بصائر فقد قال علماء العربية : إن صيغة أفعال من جموع القلة لا تطرد إلا في أسم ثلاثي مفتوح الفاء كبصر وأبصار أو مكسورها كعنب وأعناب أو مضمومها كرطب وأرطاب ساكن العين كثوب وأثواب أو محركها كما تقدم وكعضد وأعضاد وفخذ وأفخاذ وصيغة فعائل من جموع الكثرة لا تطرد إلا في أسم رباعي مؤنث بالتاء أو بالمعنى ثالثه مدة سحابة وسحائب وبصيرة وبصائر وحلوبة وحلائب وشمال وشمائل وعجوز وعجائز وسعيد علم أمرأة وسعائد فأستعيرت الأبصار للبصائر بجامع ما بينهما من الإدراك والتمييز وقد سمعت أن هذا النوع لا يكون بين حقيقة ومجاز فليحفظ كذلك أي مثل ذلك الإفك كانوا أي في الدنيا يؤفكون 55 أي يصرفون عن الصدق والتحقيق والغرض من سوق الآية الإغراق في وصف المجرمين بالتمادي في التكذيب والإصرار على الباطل أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الإغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة فسوق الكلام للتعجب من إغترارهم بلا مع السراب والغرض أن يحقر عندهم ما فيه من التمتعات وزخارف الدنيا كي يقلعوا عن العناد ويرجعوا إلى سبيل الرشاد فكانه : قيل مثل ذلك الإفك العغجيب الشأن كانوا يؤفكون في الدنيا إغترار بما عدده ساعة إستقصارا والصارف لهم هو الله تعالى أو الشيطان أو الهوى وأياما كان فليس ذاك إلا لسوء إختيارهم وخباثة إستعدادهم وفي الآية على أحد الأقوال دليل على وقوع الكذب في الآخرة من الكفرة
وأستدل بها بعضهم على نفي عذاب القبر وليس بشيء وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في الدنيا من الملائكة أو الأنس أو منهما جميعا لقد لبثتم في كتاب الله أي في علمه وقضائه أو ما كتبه وعينه سبحانه أو اللوح المحفوظ أو القرآن وهو قوله تعالى : ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون وأياما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده
وأخرج عبد بن حميد وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتموفيه من البعد ما فيه إن الكلام على التقديم والتأخير والأصل وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث والكلام رد لما قالوه مؤكد باليمين أو توبيخ وتفضيح وتهكم بهم فتأمل فهذا يوم البعث الذي كنتم توعدون في الدنيا والفاء فصيحة كأنه قيل : إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه أي فنخبركم أنه قد تبين بطلان إنكاركم

الصفحة 60