كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)
ومثل الإختلاف في الغناء الإختلاف في السماع فأباحه قوم كما أباحوا الغناء وأستدلوا على ذلك بما رواه البخاري عن عائشة قالت : دخل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فأضطجع على الفراش وحول وجهه وفي رواية لمسلمتسجى بثوبه ودخل أبو بكر فأنتهرني وقال مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : دعهما فلما غفل غمرتهما فخرجتا وكان يوم عيد الحديث ووجه الإستدلال أن هناك غناء أو سماعا وقد أنكر عليه الصلاة و السلام إنكار أبي بكر رضي الله تعالى عنه بل فيه دليل أيضا على جواز سماع الرجل صوت الجارية ولو لم تكن مملوكة لأنه عليه الصلاة و السلام سمع ولم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره وقد أستمرتا تغنيان إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج وإنكار أبي بكر على إبنته رضي الله تعالى عنهما مع علمه بوجود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان لظن أن ذلك لم يكن بعلمه عليه الصلاة و السلام لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه فظنه نائما وفي فتح الباري أستدل جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة
ويكفي في رد ذلك ما رواه البخاري أيضا بعبده عن عائشة أيضا قالت : دخل على أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت : وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر : أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ياأبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا فنفت فيه عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح
قال القرطبي : قولها ليستا بمغنيتين أي ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك وهذا منهما تجوز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه وأما ما أبتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة وإنتهى التواقع بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وأن ذلك يثمر سني الأحوال وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرقة والله تعالى المستعان إنتهى كلام القرطبي وكذا الغرض من كلام فتح الباري وهو كلام حسن بيد أن قوله : وإنما يسمي بذلك من ينشد إلخ لا يخلو عن شيء بناء على أن المتبادر عموم ذلك لما يكون في المنشد منه تعريض أو تصريح بالفواحش ولما لا يكون فيه ذلك وقال بعض الأجلة : ليس في الخبر الإباحة مطلقا بل قصارى ما فيه إباحته في سرور شرعي كما في الأعياد والأعراس فهو دليل لمن أجازه في العرس كما أجاز ضرب الدف فيه وأيضا إنكار أبي بكر رضي الله تعالى عنه ظاهر في أنه كان سمع من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذم الغناء والنهي عنه فظن عموم الحكم فأنكر وبإنكاره عليه الصلاة و السلام عليه إنكاره تبين له عدم العموم وفي الخبر الآخر ما يدل على أنه أوضح له صلى الله تعالى عليه وسلم الحال مقرونا ببيان الحكمة وهو أنه يوم عيد فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس ومع هذا أشار صلى الله تعالى عليه وسلم بثوبه وتحويل وجهه الشريف إلى أن الإعراض عن ذلك أولى وسماع