كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)
صوت الجارية الغير المملوكة بمثل هذا الغناء إذا أمنت الفتنة مما لا بأس به فليكن الخبر دليلا على جوازه
وأستدل بعضهم على ذلك بما جاء عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من دهاة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكان يتغنى ولا يخفى ما فيه فإن هذا التغني ليس بالمعنى المشهور ونحوه التغني في قوله عليه الصلاة و السلام : ليس منا من لم يتغن بالقرآن وسفيان بن عيينة وأبو عبيدة فسرا التغني في هذا الحديث بالإستغناء فكأنه قيل : ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره وهو مع هذا تغن لإزالة الوحشة عن نفسه في عقر داره ومثله ما روى عن عبدالله بن عوف قال : أتيت باب عمر رضي الله تعالى عنه فسمعته يغني
فكيف ثوائي بالمدينة بعدما قضى وطرا منها جميل بن معمر أراد به جميلا الجمحي وكان خاصا به فلما أستأذنت عليه قال لي : أسمعت ما قلت قلت : نعم قال : أنا إذا خلونا ما يقول الناس في بيوتهم وحرم جماعة السماع مطلقا وقال الغزالي : السماع أما محبوب بأن غلب على السامع حب الله تعالى ولقائه ليستخرج به أحوالا من المكاشفات والملاطفات وإما مباح بأن كان عنده عشق مباح لحليته أو لم يغلب عليه حب الله تعالى ولا الهوى وإما محرم بأن غلب عليه هوى محرم
وسئل العز بن عبدالسلام عن إستماع الإنشاد في المحبة والرقص فقال : الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل فلا يصلح إلا للنساء وأما إستماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به بل يندب عند الفتور وسآمة القلب ولا يحضر السماع من في قلبه هوى خبيث فإنه يحرك ما في القلب وقال أيضا : السماع يختلف بإختلاف السامعين والمسموع منهم وهم إما عارفون بالله تعالى ويختلف سماعهم بإختلاف أحوالهم فمن غلب عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخرقات نحو حزن وبكاء وتغير لون وهو إما خوف عقاب أو فوات ثواب أو أنس وقرب وهو أفضل الخائفين والسامعين وتأثير القرآن فيه أشد ومن غلب عليه الرجاء أثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات فإن كان رجاؤه للأنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في المرتبة الثانية وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني ومن غلب عليه حب الله تعالى لإنعامه فيؤثر فيه سماع الأنعام والإكرام أو لجماله سبحانه المطلق فيؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات وهو أفضل مما قبله لأن سبب حبه أفضل الأسباب ويشتد التأثير فيه عند ذكر الإقصاء والأبعاد ومن غلب عليه التعظيم والإجلال وهو أفضل من جميع ما قبله وتختلف أحوال هؤلاء في المسموع منه فالسماع من الولي أشد تأثيرا من السماع من عامي ومن نبي أشد تأثيرا منه ومن ولي ومن الرب عزوجل أشد تأثيرا من السماع من نبي لأن كلام المهيب أشد تأثيرا في الهائب من كلام غيره كما أن كلام الحبيب أشد تأثيرا في المحب من كلام غيره ولهذا لم يشتغل النبيون والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء وأقتصروا على كلام ربهم جل شأنه ومن يغلب عليه هوى مباح كمن يعشق حليلته فهو يؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فسماعه لا بأس به ومن يغلب عليه هوى محرم كعشق أمرد أو أجنبية فهو يؤثر فيه السعي إلى الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام وأما من لم يجد في نفسه شيئا من هذه الأقسام الستة فيكره سماعه من جهة أن الغالب على العامة إنما هي الأهواء الفاسدة فربما هيجه السماع إلى صورة محرمة فيتعلق بها ويميل إليها ولا يحرم عليه ذلك لأنا لا نتحقق السبب المحرم وقد يحضر السماع قوم من الفجرة