كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)
فيبكون وينزعجون لأغراض خبيثة أنطووا عليها ويراؤن الحاضرين بأن سماعهم لشيء محبوب وهؤلاء قد جمعوا بين المعصية وبين إبهام كونهم من الصالحين وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم ويذكرهم المنشد فراق الأحبة وعدم الأنس فيبكي أحدهم ويوهم الحاضرين إن بكاءه لأجل رب العالمين جل وعلا وهذا مراء بأمر غير محرم ثم قال : أعلم أنه لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنية والأفعال الرضية ولكل صفة من الصفات حال مختص بها فمن ذكر صفة الرحمة أو ذكر بها كانت حاله حال الراجين وسمعه سماعهم ومن ذكر شدة النقمة أو ذكر بها كانت حاله حال الخائفين وسماعه سماعهم وعلى هذا القياس وقد تغلب الأحوال على بعضهم بحيث لا يصغي إلى ما يقوله المنشد ولا يلتفت إليه لغلبة حاله الأولى عليه إنتهى وقد نقله بعض الأجلة وأقره وفيه ما يخالف ما نقل عن الغزالي
ونقل القاضي حسين عن الجنيد قدس سره أنه قال : الناس في السماع أما عوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم وأما زهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهدتهم وإما عارفون وهو مسحتب لهم لحياة قلوبهم وذكر نحوه أبو طالب المكي وصححه السهروردي عليه الرحمة في عوارفه والظاهر أن الجنيد أراد بالحرام معناه الإصطلاحي
وأستظهر بعضهم أنه لم يرد ذلك وإنما أراد أنه لا ينبغي ونقل بعضهم عن الجنيد قدس سره أنه سئل عن السماع فقال : هو ضلال للمبتديء والمنتهي لا يحتاج إليه وفيه مخالفة لما سمعت
وقال القشيري رحمه الله تعالى : إن للسماع شرائط منها معرفة الأسماء والصفات ليعلم صفات الذات من صفات الأفعال وما يمتنع في نعت الحق سبحانه وما يجوز وصفه تعالى به وما يصح إطلاقه عليه عز شأنه من الأسماء وما يمتنع ثم قال : فهذه شرائظ صحة السماع على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول وأما عند أهل الحقائق فالشرط فناء النفس بصدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة فمن لم تتقدم بالصحة معاملته ولم تحصل بالصدق منازلته فسماعه ضياع وتواجده طباع والسماع فتنة يدعو إليها إستيلاء العشق إلا عند سقوط الشهوة وحصول الصفوة وأطال بما يطول ذكره قيل : وبه يتبين تحريم السماع على أكثر متصوفة الزمان لعقد شروط القيام بأدائه ومن العجب أنهم ينسبون السماع والتواجد إلى رسول الله ويروون عن عطية أنه عليه الصلاة و السلام دخل على أصحاب الصفة يوما فجلس بينهم وقال عليه الصلاة والتحية : هل فيكم من ينشدنا أبياتا فقال واحد : لسعت حية الهوى كبدي ولا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي فقام عليه الصلاة و السلام وتمايل حتى سقط الرداء الشريف عن منكبيه فأخذه أصحاب الصفة فقسموه فيما بينهم بأربعمائة قطعة وهو لعمري كذب صريح وإفك قبيح لا أصل له بإجماع محدثي أهل السنة وما أراه إلا من وضع الزنادقة فهذا القرآن العظيم يتلوه جبريل عليه السلام عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ويتلوه هو أيضا ويسمعه من غير واحد ولا يعتريه عليه الصلاة و السلام شيء مما ذكروه في سماع بيتين هما كما سمعت سبحانك هذا بهتان عظيم وأنا أقول : قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع ولا يتحاشى من ذلك في المساجد وغيرها بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والحانات وسائر ما يعد من المحظورات ومع ذلك قد وظف لهم من غلة الوقف ما وظف ويسمونهم الممجدين