كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)
نعم قال : فما هو فأندفع الرجل يغني ويلوي شدقيه ومنخريه ويكسر عينيه فقال الحسن : ما كنت أرى أن عاقلا يبلغ من نفسه ما أرى وأختلفوا في تعاطي خارم المرؤة على أوجه ثالثها إن تعلقت به شهادة حرم وإلا فلا
قال بعض الأجلة : وهو الأوجه لأنه يحرم عليه التسبب في إسقاط ما تحمله وصار أمانة عنده لغيره ويظهر لي أنه إن كان ذلك من عالم يقتدي به أو كان ذلك سببا للإزدراء حرم أيضا وإن سماعه أي إستماعه لا مجرد سماعه بلا قصد عند أمن الفتنة وكون ما يتغنى به جائز الإنشاد وعدم تسببه لمعصية كإستدامة مغن لغناء آثم به مباح وإلا كباب عليه كما قال النووي : بسقط المرؤة كالإكباب على الغناء المباح والإختلاف في تعاطي مسقطها قد ذكرناه آنفا وأما سماعه عند عدم أمن الفتنة وكون ما يتغنى به غير جائز الإنشاد وكونه متسببا لمعصية فحرام وتتفاوت مراتب حرمته ولعلها تصل إلى حرمة كبيرة ومن السماع المحرم سماع متصوفة زماننا وإن خلا عن رقص فإن مفاسده أكثر من أن تحصى وكثير مما يسمعونه من الأشعار من أشنع ما يتلى ومع هذا يعتقدونه قربة ويزعمون أن أكثرهم رغبة فيه أشدهم رغبة أو رهبة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون
ولا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم عن القشيري وغيره أن سماعهم مذموم عند من يعتقدون إنتصار
لهم ويحسبون أنهم وإياه من حزب واحد فويل لمن شفعاؤه خصماؤه وأحباؤه أعداؤه وأما رقصهم عليه فقد زادوا به في الطنبور رنة وضموا كسر الله تعالى شوكتهم بذلك إلى السفه جنة وقد أفاد بعض الأجلة أنه لا تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف الذي قيل يباح او يسن ضربه لعرس وختان وغيرهما من كل سرور ومنه قدوم عالم ينفع المسلمين رادا على من زعم القبول فقال : وعن بعضهم تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف لإعتقادهم أن ذلك قربة كما تقبل شهادة حنفي شرب النبيذ لإعتقاده إباحته وكذا كل من فعل ما أعتقد إباحته ورد بأنه خطأ قبيح لأن إعتقاد الحنفي نشأ عن تقليد صحيح ولا كذلك غيره وإنما منشؤه الجهل والتقصير فكان خيالا باطلا لا يلتفت إليه
ثم إني أقول : لا يبعد أن يكون صاحب حال يحركه السماع ويثير منه ما يلجئه إلى الرقص أو التصفيق أو الصعق والصياح وتمزيق الثياب أو نحو ذلك مما هو مكروه أو حرام فالذي يظهر لي في ذلك أنه إن علم من نفسه صدور ما ذكر كان حكم الإستماع في حقه حكم ما يترتب عليه وإن تردد فيه فالأحوط في حقه إن لم نقل بالكراهة عدم الإستماع ففي الخبر دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ثم إن ما حصل له شيء من ذلك بمجرد السماع من غير قصد ولم يقدر على دفعه أصلا فلا لوم ولا عتاب فيه عليه وحكمه في ذلك حكم من إعتراه نحو عطاس وسعال قهريين ولا يشترط في دفع اللوم والعتاب عنه كون ذلك مع غيبته فلا يجب على من صدر منه ذلك إن لم يغب إعادة الوضوء للصلاة مثلا ويلنظر فيما لو إعتراه وهو في الصلاة بدون غيبة هل حكمه حكم نحو العطاس والسعال إذا إعتراه فيها أم لا والذي سمعته عن بعض الكبار الثاني فتدبر ومن الناس من يعتريه شيء مما ذكر عند سماع القرآن أما مطلقا أو إذا كان بصوت حسن وقلما يقع ذلك من سماع القرآن أو غيره لكامل
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها إنه قيل لها : إن قوما إذا سمعوا القرآن صعقوا فقالت : القرآن أكرم من أن يسرق منه عقول الرجال ولكنه كما قال الله تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وكثيرا ما يكون لضعف تحمل الوارد وبعض المتصنعين يفعله رياء وعن إبن سيرين إنه سئل عمن يسمع القرآن فيصعق فقال : ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره