كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)
فإن صعقوا فهو كما قالوا ولا يرد على إباحة الغناء وسماعه في بعض الصور خبر إبن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل لا لأن الغناء فيه مقصور وأن المراد به غني المال الذي هو ضد الفقر إذ يرد ذلك أن الخبر روى من وجه آخر بزيادة والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع ومقابلة الغناء بالذكر ظاهر في المراد به التغني على أن الرواية كما قال بعض الحفاظ بالمدبل لأن المراد أن الغناء من شأنه أن يترتب عليه النفاق أي العملي بأن يحرك إلى غدر وخلف وعد وكذب ونحوها ولا يلزم من ذلك إطراد الترتب
وربما يشير إلى ذلك التشبيه في قوله : كما ينبت الماء البقل فإن إنبات الماء البقل غير مطرد ونظير ذلك في الكلام كثير والقائل بإباحته في بعض الصور إنما يبيحه حيث لا يترتب عليه ذلك نعم لا شك أن ما هذا شأنه الأحوط بعد كل قيل وقال عدم الرغبة فيه كذا قيل
وقيل : يجوز أن يكون أريد بالنفاق الإيماني ويؤيده مقابلته في بعض الروايات بالإيمان ويكون مساق الخبر للتنفير عن الغناء إذ كان الناس حديثي عهد بجاهلية كان يستعمل فيها الغناء للهو ويجتمع عليه في مجالس الشرب ووجه إنباته للنفاق إذ ذاك أن كثيرا منهم لقرب عهده بلذة الغناء وما يكون عنده من اللهو والشرب وغيره من أنواع الفسق يتحرك قلبه لما كان عليه ويحن حنين العشار إليه ويكره لذلك الإيمان الذي صده عما هنالك ولا يستطيع لقوة شوكة الإسلام أن يظهر ما أضمر وينبذ الإيمان وراء ظهره ويتقدم إلى ما عنه تأخر فلم يسعه إلا النفاق لما أجتمع عليه مخافة الردة والإشتياق فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك وأما الآية فإن كان وجه الإستدلال بها تسمية الغناء لهوا فكم لهو هو حلال وإن كان الوعيد على إشترائه وإختياره فلا نسلم أن ذلك على مجرد الإشتراء لجواز أن يكون على الإشتراء ليضل عن سبيل الله تعالى ولا شك أن ذلك من الكبائر ولا نزاع لنا فيه وقال إبن عطية : الذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافا إلى الكفر فلذلك أشتدت ألفاظ الآية بقوله تعالى : ليضل إلخ
ومما ذكرنا يعلم ما في الإستدلال بها على حرمة الملاهي كالرباب والجنك والسنطير والكمنجة والمزمار وغيرها من الآلات المطربة بناء على ما روى عن إبن عباس والحسن أنهما فسرا لهو الحديث بها نعم أنه يحرم إستعمالها وإستماعها لغير ما ذكر فقد صح من طرق خلافا لما وهم فيه إبن حزم الضال المضل فقد علقه البخاري ووصله الإسماعيلي وأحمد وإبن ماجه وأبو نعيم وأبو داؤد بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها وصححه جماعة آخرون من الأئمة كما قاله بعض الحفاظ أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال ليكونن في أمتي قوم يستحلون الخز والخمر والمعارف وهو صريح في تحريم جميع آلات اللهو المطربة ومما يشبه الصريح في ذلك ما رواه إبن أبي الدنيا في كتاب ذم الملاهي عن أنس وأحمد والطبراني عن إبن عباس وأبي أمامة مرفوعا ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور وأتخذوا القينات وضربوا بالمعازف وهي الملاهي التي سمعتها ومنها الصنج العجمي وهو صفر يجعل عليه أوتار يضرب بها على ما ذهب إليه غير واحد خلافا للماوردي حيث قال : إن الصنج يكره مع الغناء ولا يكره منفردا لأنه بإنفراده غير مطرب ولعله أراد به العربي وهو قطعتان من صفر تضرب أحدهما بالأخرى فإنه بحسب الظاهر هو الذي لا يطرب منفردا لكن يزيد الغناء طربا وذكر أنه يستعمله المخنثون في بعض البلاد ولا يبعد عليه القول بالحرمة ومنها اليراع وهو الشبابة فإنه مطرب بإنفراده بل قال بعض أهل الموسيقى : إنه آلة كاملة جامعة لجميع النغمات إلا يسيرا وقد أطنب الإمام الدولقي وهو من أجلة