كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 21)
والندب والإباحة فإن كان مما علمت صفته فلا يخلو من أن تكون الوجوب أو الندب أو الإباحة لا جائز أن تكون الوجوب المستلزم لحرمة سماع اليراع إذ لا قائل بأنه يجب على أحد سد الأذنين عند سماع محرم إذ يأمن الإثم بعدم القصد فقد قالوا : إن الحرام الإستماع لا مجرد السماع بلا قصد وفي الزواجر الممنوع هو الإستماع لا السماع لا عن قصد إتفاقا ومن ثم صرح أصحابنايعني الشافعية أن من بجواره آلات محرمة ولا يمكنه إزالتها لا يلزمه النقلة ولا يأثم بسماعها لا عن قصد وإصغاء والظاهر أن الأمر كذلك عند سائر الأئمة نعم لهم تفصيل في القعود في مكان فيه نحو ذلك قال في تنوير الإبصار وشرحه الدر المختار : دعى إلى وليمة وثمة لعب وغناء قعد وأكل ولو على المائدة لا ينبغي أن يقعد بل يخرج معرضا لقوله تعالى : فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين فإن قدر على المنع فعل وإلا يقدر صبران لم يكن ممن يقتدي به فإن كان مقتدي به ولم يقدر على المنع خرج ولا يقعد لأن فيه شين الدين والمحكي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كان قبل أن يصير مقتدي به وإن علم أولا لا يحضر أصلا سواء كان ممن يقتدي به أولا فتعين كونها الندب أو الإباحة وكلا الأمرين لا يستلزمان الحرمة فيحتمل أن يكون ذلك حراما أو مكروها يندب سد الأذنين عند سماعه إحتياطا من أن يدعو إلى الإستماع المحرم أو المكروه وإن كان مما لم تعلم صفته فقد قالوا فيما كان كذلك : المذاهب فيه بالنسبة إلى الأمة خمسة الوجوب والندب والإباحة والوقف والتفصيل وهو أنه إن ظهر قصد القربة فالندب وإلا فالإباحة ويعلم مما ذكرنا الحال على كل مذهب والذي يغلب على الظن أن ما أشار إليه الخبر أن كان الزمر بزمارة الراعي على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات كما يفعله من جعل ذلك صنعته اليوم فإستماعه حرام وسد الأذنين المشار إليه فيه لعله كان منه عليه الصلاة و السلام تعليما للأمة أحد طرق الإحتياط المعلوم حاله لئلا يجرهم ذلك إلى الإستماع وإلا فالإستماع لمكان العصمة مما لا يتصور في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم ومن عرف قدر الصحابة وأطلع على سبيلهم وحرصهم على التأسي به عليه الصلاة و السلام لم يشك في أن إبن عمر رضي الله تعالى عنه سد أذنيه أيضا تأسيا ويكون حينئذ قوله عليه الصلاة و السلام الذي يشير إليه الخبر له رضي الله تعالى عنه أتسمع على معنى تسمع أتسمع وإنما أسقط تسمع لدلالة الحال عليه إذ من سد أذنيه لا يسمع وإنما أذن له صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك لموضع الحاجة وهذا أقرب من إحتمال كون سد الأذنين منه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه كان في حال ذكر أو فكر وكان يشغله صلى الله تعالى عليه وسلم عند السماع
وأما عدم نهيه عليه الصلاة و السلام من كان يزمر عن الزمر والإنكار عليه فلا يسلم دلالته على الجواز فإنه يجوز أن يكون الصوت جاء من بعيد وبين الزامر وبينه عليه الصلاة و السلام ما يمنع من الوصول إليه أو لم يعرف عينه لأن الصوت قد جاء من وراء حجاب ولا تتحقق القدرة معه على الإنكار ويجوز أيضا أن يكون التحريم معلوما من قبل وعلم من النبي الصرار عليه وأن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله فيكون ذلك كإختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم وفي مثل ذلك لا يدل السكوت وعدم الإنكار على الجواز إجماعا ومن قال بأن الكافر غير مكلف بالفروع قال : يجوز أن يكون الزامر كافرا وأن السكوت في حقه ليس دليل الجواز وإن كان الزمر بها لا على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات فلا بعد في