كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

أبا سفيان قال لكفار مكة لما سمعوا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت ويتخوفنا بالبعث واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث فقال الله تعالى قل يامحمد بلى وربي لتبعثن قاله مقاتل وباقي السورة تهديد لهم وتخويف ومن هذا ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها إنتهى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض أي له عزوجل خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والأحياء والأماتة جميع ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فكأنه قيل : له هذا العالم بالأسر ووصفه تعالى بذلك على ما قاله أبو السعود لتقرير ما أفاده تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة عند أرباب التحقيق بالأسم الجليل من إختصاص جميع أفراد المخلوقات به عزوجل ببيان تفرده تعالى وإستقلاله بما يوجب ذلك وكون كل ما سواه سبحانه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوته تعالى ليس لها في حد ذاتها إستحقاق الوجود فضلا عما عداه من صفاتها بل كل ذلك نعم فائضة عليها من جهته عزوجل فما هذا شأنه فهو بمعزل من إستحقاق الحمد الذي مداره الجميل الصادر عن القادر بالإختيار فظهر إختصاص جميع أفراده به تعالى وفي الوصف بما ذكر أيضا إيذان بأنه تعالى المحمود على نعم الدنيا حيث عقب الحمد بما تضمن جميع النعم الدنيوية فيكون الكلام نظير قولك : أحمد أخاك الذي حملك وكساك فإنك تريد به أحمده على حملانه وكسوته وفي عطف قوله تعالى : وله الحمد في الآخرة على الصلة كما هو الظاهر إيذان بأنه سبحانه المحمود على نعم الآخرة ليتلاءم الكلام وفي تقييد الحمد فيه : بأن محله الآخرة إيذان بأن محل الحمد الأول الدنيا لذلك أيضا فتفيد الجملتان أنه عزوجل المحمود على نعم الدنيا فيها وأنه تبارك وتعالى المحمود على نعم الآخرة فيها وجوز أن يكون في الكلام صنعة الإحتباك وأصله الحمد لله إلخ في الدنيا وله ما في الآخرة والحمد فيها فأثبت في كل منهما ما حذف من الآخر وقال أبو السعود : إن الجملة الثانية لإختصاص الحمد الأخروي به تعالى إثر بيان إختصاص الدنيوي به سبحانه على أن في الآخرة متعلق بنفس الحمد أو بما تعلق به له من الإستقرار وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليس للإكتفاء بذكر كونه في الآخرة عن التعيين كما أكتفى فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد فيها أيضا بل ليعم النعم الأخروية كما في قوله تعالى الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وقوله تعالى الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما في قوله تعالى الحمد لله الذي هدانا لهذا أي لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان والعمل الصالح
وأنت تعلم أن المتبادر إلى الذهن هو ما قرر أولا والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة بطريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ والإغتباط وقد ورد في الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس وقول الزمخشري : إن الأول واجب لأنه على نعمة متفضل بها والثاني ليس بواجب لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها مبني على رأي المعتزلة على أن قوله : لأنه على نعمة واجبة الإيصال ليس على إطلاقه عندهم لأن ما يعطى الله تعالى العباد في الآخرة ليس مقصورا على الجزاء عندهم بل بعض ذلك تفضل وبعضه أجر وتقديم الخبر في الجملة الثانية لتأكيد الحصر المستفاد من اللام على ما هو الشائع إعتناء بشأن

الصفحة 103