كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

كل مطرح و جديد فعيل بمعنى فاعل عند البصريين من جد الشيء إذا صار جديدا وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه ثم شاع في كل جديد وإن لم يكن مقطوعا كالبناء والسبب في الخلاف أنهم رأوا العرب لا يؤنثونه ويقولون ملحفة جديد لا جديدة فذهب الكوفيون إلى أنه بمعنى مفعول والبصريون إلى خلافه وقالوا ترك التأنيث لتأويله بشيء جديد أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول كذا قيل : أفترى على الله كذبا فيما ينسب إليه من أمر البعث أم به جنة أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه وأستدل به أبو عمرو الجاحظ على ما ذهب إليه من أن صدق الخبر مطابقته للواقع مع الإعتقاد وكذبه عدمها معه وغيرهما ليس بصدق ولا كذب وذلك أن الكفار وهم عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة حصروا أخبار النبي بالبعث في الإفتراء والأخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو بالمعنى الأعم ولا شك أن المراد بالثاني غير الكذب لأنه قسيمه وغير الصدق لأنهم أعتقدوا عدمه وأيضا لا دلالة لقولهم أم به جنة على معنى أم صدق بوجه من الوجوه فيجب أن يكون بعض الخبر ما ليس باصدق ولا كاذب ليكون ذلك منه بزعمهم وإن كان صادقا في نفس الأمر وتوضيحه أن ظاهر كلامهم هذا يدل على طلب تعيين أحد حالي النبي المستويين في إعتقاد المتكلم حين الأخبار بالبعث وهو يستلزم تعيين أحد حالي الخبر والإستفهام ههنا للتقرير فيفيد ثبوت أحد الحالين للخبر ولا شك أن ثبوت أحدهما لا يثبت الواسطة ما لم يعتبر تنافيهما وكذا تنافيهما في الجمع لا يثبتها بل لا بد من تنافيهما في الإرتفاع يعني أن خبره عليه الصلاة و السلام بالبعث لا يخلو عن أحد الأمرين المتنافيين فيكون المراد بالثاني ما هو مناف وقسيم للأول ومعلوم أنه غير الصدق فليس الصدق عبارة عن مطابقة الواقع فقط والكذب عن عدم المطابقة له كما يقول الجمهور أو عن مطابقة الإعتقاد له وعدم مطابقته له كما يقول النظام فيكونان عبارتين عن مطابقتهما وعدم مطابقتهما وتثبت الواسطة وأجيب بأن معنى أم به جنة أم لم يفتر فعبر عن عدم الإفتراء بالجنة لأن المجنون يلزمه أن لا إفتراء له كما دل عليه نقل الأئمة وإستعمال العرب الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون فالثاني ليس قسيما للكذب بل لما هو أخص منه أعني الإفتراء فيكون ذلك حصرا للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد ولو سلم أن الإفتراء بمعنى الكذب مطلقا فالمعنى أقصد الإفتراء أي الكذب أم لم يقصد بل كذب بلا قصد لما به من الجنة
وقيل : المعنى أفترى أم لم يفتر بل به جنون وكلام المجنون ليس بخبر لأنه لا قصد له يعتد به ولا شعور فيكون مرادهم حصره في نونه خبرا كاذبا أو ليس بخبر فلا يثبت خبر لا يكون صادقا ولا كاذبا ونوقش فيه كما لا يخفى على من راجع كتب المعاني بقي ههنا بحث وهو أن الطيبي أشار إلى أن مبني الإستدلال كون أم متصلة وأعترضه بأن الظاهر كونها منقطعة أما لفظا فلإختلاف مدخول الهمزة وأم وأما معنى فلأن الكفرة المعاندين لما أخرجوا قولهم هل ندلكم على رجل ينبئكم مخرج الظن والسخرية متجاهلين برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبكلامه من إثبات الحشر والنشر وعقبوه بقولهم أفترى على الله كذبا أضربوا عنه إلى ما هو أبلغ منه ترقيا من الأهون إلى الأغلظ من نسبة الجنون إليه وحاشاه فكأنهم قالوا : دعوا حديث الإفتراء فإن ههنا ما هو أطم منه لأن العاقل كيف يحدث بإنشاء خلق جديد بعد الرفات والتراب ولما كان التعويل على ما بعد الإضراب من إثبات الجنون أوقع الإضراب الثاني في كلامه تعالى ردا لقولهم ونفيا للجنون عنه صلوات الله

الصفحة 110