كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

قوله تعالى إن في ذلك لآية لكل عبد منيب كما أشرنا إليه وقال أبو حيان : مناسبة قصتيهما عليهما السلام لما قبلها هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لإستحالته في زعمهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم وأشعارهم وقيل : ذكر سبحانه نعمته عليهما إحتجاجا على ما منح نبينا كأنه قيل : لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا فلما فرغ التمثيل له عليه الصلاة و السلام رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو ياجبال أوبي معه أي سبحي معه قاله إبن عباس وقتادة وإبن زيد وأخرجه إبن جرير عن أبي ميسرة إلا أنه قال : معناه ذلك بلغة الحبشة والظاهر أنه عربي من التأويب والمراد رجعي معه التسبيح وردديه وقال إبن عطية : إن أصل ماضيه آب وضعف للمبالغة وتعقبه في البحر بقوله ويظهر أن التضعيف للتعدية لأن آب بمعنى رجع لازم صلته اللام فعدى بالتضعيف إذ شرحوه بقولهم رجعي معه التسبيح
يروى أنه عليه السلام كان إذا سبح سبحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها ولا يعجز الله عز و جل أن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع وقد سبح الحصى في كف نبينا عليه الصلاة و السلام وسمع تسبيحه وكذا في كف أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولا يبعد على هذا أن يقال : إنه تعالى خلق فيها الفهم أولا فناداها كما ينادي أولوا الفهم وأمرها وقال بعضهم : إنه سبحانه نزل الجبال منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم اطاعوا وأذعنوا وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته سبحانه ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية حيث نادى الجبال وأمرها وقيل : المراد بتأويلها حملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها وفيه مع كونه خلاف المأثور إن معه يأباه وأيضا لا إختصاص له عليه السلام بتأويب الجبال بهذا المعنى حتى يفضل به أو يكون معجزة له وقيل : كان عليه السلام ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده بأصدائها وفيه أن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما قام عليه البرهان والله تعالى نادى الجبال وأمرها أن تؤؤب معه وأيضا أي إختصاص له عليه الصلاة و السلام بذلك ولصوت كل أحد صدى عند الجبال وعن الحسن أن معنى أوبي معه سيرى معه أين سار والتأويب سير النهار كأن الإنسان يسير الليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده
ومن ذلك قول تميم بن مقبل : لحقنا بحي أوبوا السير بعدما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح وقول آخر : يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب وأورد عليه أن الجبال أوتاد الأرض ولم ينقل سيرها مع داؤد عليه السلام أو غيره وقيل : المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه فكانت إذا سبح سبحت وإذا ناح ناحت وإذا قرأ الزبور قرأت وتعقب بأنه لم يعرف التأويب بمعنى التصرف في لغة العرب وقيل : المعنى أرجعي إلى مراده فيما يريد من حفر وإستنباط أعين وإستخراج معدن ووضع طريق والجملة معمولة لقول مضمر أي قولنا ياجبال على أنه بدل من فضلا بدل كل من كل أو بدل إشتمال أو قلنا ياجبال على أنه بدل من آتينا وجوز كونه بدلا من فضلا بناء على أنه

الصفحة 113