كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

كما قال إبن عطية وأصله من الكف بمعنى المنع وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج وأشتهر في ذلك حتى قطع النظر فيه عن معنى المنع بالكلية فمعنى جاء الناس كافة جاؤا جميعا ويشير إلى هذا الإعراب ما أخرج إبن أبي شيبة وإبن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية : أي إلى الناس جميعا وما أخرج إبن أبي حاتم عن محمد إبن كعب أنه قال : أي للناس كافة وكذا ما أخرج عبد بن حميد وإبن جرير وإبن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية : أزسل الله تعالى محمد إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله تعالى أطوعهم له وما نقل عن إبن عباس أنه قال : أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم وهو مبني على جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو الذي ذهب إليه خلافا لكثير من النحاة أبو علي وإبن كيسان وإبن برهان والرضي وإبن مالك حيث قال : وسبق حال ما بحرف جرقد أبوا ولا أمنعه فقد ورد وأبو حيان حيث قال بعد أن نقل الجواز عمن عدا الرضى من المذكورين وهو الصحيح : ومن أمثلة أبي على زيد خير ما يكون خير منك وقال الشاعر : إذا المرء أعيته المروءة ناشئا فمطلبها كهلا عليه شديد وقال آخر : تسليت طراعنكم بعد بينكم بذكراكم حتى كأنكم عندي وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به ومن ذلك قوله : مشغوفة بك قد شغفت وإنما حتم الفراق إليك سبيل وقول آخر : غافلا تعرض المنية للمر فيدعى ولات حين إباء وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل فتقديمها عليه دون العامل أجوز إنتهى وجعلوا هذا الوجه أحسن الأوجه في الآية وقالوا : إن ما عداه تكلف وأعترض بأنه يلزم عليه عمل ما قبل إلا وهوأرسلفيما بعدها وهو للناس وليس بمستثنى ولا مستثنى منه ولا تابعا له وقد منعوه وأجيب بأن التقدير وما أرسلناك للناس إلا كافة فهو مقدم رتبة ومثله كاف في صحة العمل مع أنهم يتوسعون في الظرف مالا يتوسعون في غيره
وقال الخفاجي عليه الرحمة : الأحسن أن يجعل للناس مستثنى على أن الإستثناء فيه مفرغ وأصله ما أرسلناك لشيء من الأشياء إلا لتبليغ الناس كافة وأما تقديره بما أرسلناك للخلق مطلقا إلا للناس كافة على أنه مستثنى فركيك جدا ولا يخفى أن في الآية على ما أستحسنه حذف المضاف والفصل بين أداة الإستثناء والمستثنى وتقديم الحال على صاحبها والكل خلاف الأصل وقلما يجتمع مثل ذلك في الكلام الفصيح وأعترض عليه أيضا بأنه يلزم حينئذ جعل اللام في للناس بمعنى إلى وليس بشيء لأن أرسل يتعدى باللام وإلى كما ذكره أبو حيان وغيره فلا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى على أنه لو جعلت بمعناها لا يلزم خطأ أصلا لمجيء كل من اللام وإلى بمعنى الأخر وكذا لا حاجة إلى جعلها تعليلية إلا على ما أستحسنه الخفاجي
وقال غير واحد : إن كافة أسم فاعل من كف والتاء فيه للمبالغة كتاء راوية ونحوه وهو حال من مفعول أرسلناك و للناس متعلق به وإليه دهب أبو حيان أي ما أرسلناك إلا كافا ومانعا للناس عن الكفر والمعاصي
وإلى الحالية من الكاف ذهب أبو علي أيضا إلا أنه قال : المعنى إلا جامعا للناس في الإبلاغ وتعقبه أبو حيان بأن اللغة لا تساعد على ذلك لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع وفيه منع ظاهر لأنه يقال : كف القميص

الصفحة 142