كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

عن الراغب لم يحتج إلى هذا وما أرسلنا في قرية من القرى من تدبر أي نذيرا من النذر إلا قال مترفوها أي المتوسعون في النعم فيها والجملة في موضع الحال إنا بما أرسلتم به بزعمكم من التوحيد وغيره والجار الثاني متعلق بما عنده والأول متعلق بقوله تعالى : كافرون 43 وهو خبر إن وظاهر الآية أن مترفي كل قرية قالوا لرسولهم ذلك وعليه فالجمع في أرسلتم للتهكم وقيل : لتغليب المخاطب على جنس الرسل أو على إتباعه المؤمنين به وقال بعض الأجلة الكلام من باب مقابلة الجمع بالجمع فقيل الجمع الأول الرسل المدلول عليه بقوله تعالى أرسلتم والثاني كافرون فقد كفر كل برسوله وخاطبه بمثله فلا تغليب في الخطاب في أرسلتم وقيل : الجمع الأول نذير لأنه يفيد العموم في الحكاية لا المحكي لوقوعه في سياق النفي وليس كل قوم منكرا لجميع الرسل فحمل على المقابلة والكلام مسوق لتسلية رسول الله مما إبتلى به من مخالفة مترفي قومه وعداوتهم له عليه الصلاة و السلام وتخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم في الأغلب أول المكذبين للرسل عليهم السلام لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على قلوبهم منها فهم منهمكون في الشهوات والإستهانة بمن لم يحظ منها بخلاف الفقراء فإن قلوبهم لخلوها من ذلك أقبل للخير ولذلك تراهم أكثر إتباع الأنبياء عليهم السلام كما جاء في حديث هرقل وقالوا الضمير للمترفين الذين تقدم ذكرهم وقيل : لقريش والظاهر المتبادر هو الأول والمراد حكاية ما شجعهم على الكفر بما أرسل به المنذرون أي وقال المترفون : نحن أكثر أموالا وأولادا أي أموالنا وأولادنا كثيرة جدا فأفعل للزيادة المطلقة وجوز بقاؤه على ما هو الأكثر إستعمالا والمفضل عليه محذوف أي نحن أكثر منكم أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين 53 بشيء من أنواع العذاب الذي يكدر علينا لذة كثرة الأموال والأولاد من خوف الملوك وقهر الأعداء وعدم نفوذ الكلمة والكد في تحصيل المقاصد ونحو ذلك وإيلاء الضمير حرف النفي للإشارة إلى أن المخاطبين أو المؤمنين ليسوا كذلك وحاصل قولهم نحن في نعمة لا يشوبها نقمة وهو دليل كرامتنا على الله عزوجل ورضاه عنا فلو كان ما نحن عليه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفا لرضاه لما كنا فيه من النعمة ويجوز أن يكونوا قد قاسوا أمور الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمور الدنيا وزعموا أن المنعم عليه في الدنيا منعم عليه في الآخرة وإلى هذا الوجه ذهب جمع وقالوا : نفي كونهم معذبين إما بناء على إنتفاء العذاب الأخروي رأسا وإما بناء على إعتقاد أنه تعالى أكرمهم في الدنيا فلا يهينهم في الآخرة على تقدير وقوعها وقال الخفاجي في وجه إيلاء الضمير حرف النفي : إنه إشارة إلى أن المؤمنين معذبون إستهانة بهم لظنهم أن المراد بالعذاب المنفي أعم من العذاب الأخروي والعذاب الدنيوي الذي قد ينذر به الأنبياء عليهم السلام ويتوعدون به قومهم إن لم يؤمنوا بهم ولعل ما ذكرناه أولا أنسب بالمقام فتأمل جدا قل ردا لما زعموه من أن ذلك دليل الكرامة والرضا إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له ويقدر على من يشاء أن يقدره عليه فربما يوسع سبحانه على العاصي ويضيق على المطيع وربما يعكس الأمر وربما يوسع عليهما معا وقد يضيق عليهما معا وقد يوسع على شخص مطيع أو عاص تارة ويضيق عليه أخرى يفعل كلا من ذلك حسبما تقتضيه مشيئته عزوجل

الصفحة 147