كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

وتعرضوا لنفحاته جل وعلا فمساق الآية للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقريب إليه تعالى بالإنفاق وهذا بخلاف مساق نظيرها المتقدم فإنه للرد على الكفرة كما سمعت وأيضا ما سبق عام وما هنا خاص في البسط والتضييق لشخص واحد بإعتبار وقتين كما يشعر به قوله تعالى هنا له وعدم قوله هناك والضمير وإن كان في موضع من المبهم إلا أن سبق النظير خاليا عن ذلك وذكر هذا بعد مشتملا عليه كالقرينة على إرادة ما ذكر فلا تغفل
وما أنفقتم من شيء يحتمل أن تكون ما شرطية في موضع نصب بأنفقتم وقوله تعالى فهو يخلفه جواب الشرط ويحتمل أن تكون بمعنى الذي في موضع رفع بالإبتداء والجملة بعد خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط و من شيء تبيين على الإحتمالين ومعنى يخلفه يعطي بدله وما يقوم مقامه عوضا عنه وذلك إما في الدنيا بالمال كما هو الظاهر أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى كما قيل وإما في الآخرة بالثواب الذي كل خلف دونه وخصه بعضهم بالآخرة أخرج الفريابي وعبد بن حميد وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن مجاهد قال : إذا كان لأحدكم شيء فيلقتصد ولا يتأول هذه الآية وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه وأخرج من عدا الفريابي من المذكورين عنه أنه قال في الآية : أي ما كان من خلف فهو منه تعالى وربما أنفق الإنسان ماله كله في الخير ولم يخلف حتى يموت ومثلها وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها يقول ما آتاها من رزق فمنه تعالى وربما لم يرزقها حتى تموت والأول أظهر لأن الآية في الحث على الإنفاق وإن البسط والقدر إذا كانا من عنده عزوجل فلا ينبغي لمن وسع عليه أن يخاف الضيعة بالإنفاق ولا لمن قدر عليه زيادتها وقوله تعالى وهو خير الرازقين 93 تذييل يؤيد ذلك كأنه قيل : فيرزقه من حيث لا يحتسب وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا واخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : كل ما أنفق العبد نفقة فعلى الله تعالى خلفها ضامنا إلا نفقة في بنيان أو معصية
وأخرج البخاري وإبن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال : قال الله عزوجل أنفق ياإبن آدم أنفق عليك وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عنه قالقال عليه الصلاة و السلام إن المعونة تنزل من السماء على قدر المؤونة وفي حديث طويل عن الزبير قال الله تبارك وتعالى أنفق أنفق عليك وأوسع أوسع عليك ولا تضيق أضيق عليك ولا تصر فأصر عليك ولا تخزن فأخزن عليك إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سموات متواصل إلى العرش لا يغلق ليلا ولا نهارا ينزل الله تعالى منه الرزق على كل أمريء بقدر نيته وعطيته وصدقته ونفقته فمن أكثر أكثر له ومن أقل أقل له ومن أمسك أمسك عليه يازبير فكل وأطعم ولا توكي فيوكي عليك ولا تحصي فيحصي عليك ولا تقتر فيقتر عليك ولا تعسر فيعسر عليك الحديث ومعنى الرازقين الموصلين للرزق والموهبين له فيطلق الرازق حقيقة على الله عزوجل وعلى غيره ويشعر بذلك فأرزقوهم منه نعم لا يقال لغيره سبحانه رازق فلا إشكال في قوله سبحانه وهو خير الرازقين ووجه الأخيرية في غاية الظهور وقيل إطلاق الرازق على غيره تعالى مجاز بإعتبار أنه واسطة في إيصال رزقه تعالى فهو رازق صورة فأستشكل أمر التفضيل بأنه لا بد من مشاركة المفضل للمفضل عليه في أصل الفعل حقيقة لا صورة

الصفحة 150