كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

من قوم من الكفرة وما آتيناهم أي أهل مكة من كتب يدرسونها تقتضي صحة الإشراك ليعذروا فيه فهو كقوله تعالى : أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وقوله سبحانه : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون وإلى هذا ذهب إبن زيد وقال السدي : المعنى ما آتيناهم كتبا يدرسونها فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به ويرجع إلى الأول والمقصود نفي أن يكون لهم دليل على صحة ما هم عليه من الشرك ومن صلة وجمع الكتب إشارة على ما قيل إلى أنه لشدة بطلانه وإستحالة إثباته بدليل سمعي أو عقلي يحتاج إلى تكرر الأدلة وقوتها فكيف يدعى ما تواترت الأدلة النيرة على خلافه وقرأ أبو حيوة يدرسونها من التدريس وهو تكرير الدرس أو من درس الكتاب مخففا ودرس الكتب مشددا التضعيف فيه بإعتبار الجمع
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير 44 أي وما أرسلنا إليهم قبلك نذيرا يدعوهم إلى الشرك وينذرهم بالعقاب على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ وفيه من التهكم والتجهيل ما لا يخفى ويجوز أن يراد أنهم أميون كانوا في فترة لا عذر لهم في الشرك ولا في عدم الإستجابة لك كأل الكمتاب الذين لهم كتب ودين يأبون تركه ويحتجون على عدم المتابعة بأن نبيهم حذرهم ترك دينه مع أنه بين البطلان لثبوت أمر من قبله بإتباعه وتبشير الكتب به وذكر إبن عطية أن الأرض لم تخل من داع إلى توحيد الله تعالى فالمراد نفي إرسال نذير يختص بهؤلاء ويشافههم وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل عليه السلام والله تعالى بقول : إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ولكن لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمد ثم إنه تعالى هددهم بقوله سبحانه : وكذب الذين من قبلهم من الأمم المتقدمة والقرون الخالية بما كذبوا وما بلغوا أي أهل مكة معشار أي عشر ما آتيناهم وقال : قوم المعشار عشر العشر ولم يرتضه إبن عطية وقال الماوردي : المراد المبالغة في التقليل أي ما بلغوا أقل قليل مما آتينا أولئك المكذبين من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال فكذبوا أي أولئك المكذبون رسلي الذين أرسلتهم إليهم فيف كان نكيره 54 أي إنكاري لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك
والفاء الأولى سببية و كذب الأول منزل منزلة اللازم أي فعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه ونظير ذلك أن يقول القائل أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد ومن هنا قالوا : إن كذبوا رسلي عطف على كذب الذين عطف المقيد على المطلق وهو تفسير معنى وما بلغوا إعتراض والفاء الثانية فصيحة فيكون المعنى فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم وجعل التدمير إنكارا تنزيلا للفعل منزلة القول كما في قوله
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
أو على نحو
تحية بينهم ضرب وجيع
وجوز بعضهم أن يكون صيغة التفعيل في كذب الذين للتكثير وفي كذبوا للتعدية والمكذب فيهما واحد أي أنهم أكثروا الكذب وألفوه فصار سجية لهم حتى أجترؤا على تكذيب الرسل وعلى الوجهين لا تكرار وجوز أن يكون كذبوا

الصفحة 153