كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

رسلي منعطفا على ما بلغوا من تتمة الإعتراض والضمير لأهل مكة يعني هؤلاء لم يبلغوا معشار ما آتينا أولئك المكذبين الأولين وفضلوهم في التكذيب لأن تكذيبهم لخاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام تكذيب لجميع الرسل عليهم السلام من وجهين وعليه لا يتوهم تكرار كما لا يخفى وكون جملة ما بلغوا معترضة هو الظاهر وجعل وكذب الذين من قبلهم تمهيدا لئلا تكون تلك الجملة كذلك يدفعه فكيف كان نكير لأن معناه للمكذبين الأولين البتة فلا إلتئام دون القول بكونها معترضة وإرجاع ضمير بلغوا إلى أهل مكة والضمير المنصوب في آتيناهم إلى الذين من قبلهم وبيان الموصول بما سمعت هو المروى عن إبن عباس وقتادة وإبن زيد وقيل الضمير الأول للذين من قبلهم والضمير الثاني لأهل مكة أي وما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى وقيل : الضميران للذين من قبلهم أي كذبوا وما بلغوا في شكر النعمة ومقابلة المئة عشر ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم وأستظهر ذلك أبو حيان معلالا له بتناسق الضمائر حيث جعل ضمير فكذبوا للذين من قبلهم فلا تغفل قل إنما أعظكم بواحدة أي ما أرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة وهي على ما قال قادة ما د عليه قول تعالى : أن تقوموا لله على أنه في تأويل مصدر بدل منها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي قيامكم أو مفعول لفعل محذوف أي أعني قيامكم وجوز الزمخشري كونه عطف بيان لواحدة وأعترض بأن أن تقوموا معرفة لتقديره بقيامكم وعطف البيان يشترط فيه عند البصريين أن يكون معرفة من معرفة وهو عند الكوفيين يتبع ما قبله في التعريف والتنكير والتخالف مما لم يذهب إليه ذاهب
والظاهر أن الزمخشري ذاهب إلى جواز التخالف وقد صرح إبن مالك في التسهيل بنسبة ذلك إليه وهو من مجتهدي علماء العربية وجوز أن يكون قد عبر بعطف البيان وأراد البدل لتآخيها وهذا إمام الصناعة سيبويه يسمي التوكيد صفة وعطف البيان صفة ثم إن كون المصدر المسبوك معرفة أو مؤولا بها دائما غير مسلم والقيام مجاز عن الجد والإجتهاد وقيل هو على حقيقته والمراد القيام عن مجلس رسول الله وليس بذاك وقد روى نفي إرادته عن إبن جريج أي إن تجدوا وتجتهدوا في الأمر بإخلاص لوجه الله تعالى مثنى وفرادى اي متفرقين إثنين إثنين وواحدا واحدا فإن في الإزدحام على الأغلب تهويش الخاطر والمنع من الفكر وتخليط الكلام وقلة الإنصاف كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة فإنه لا يكاد يوقف فيها عل تحقيق وفي تقديم مثنى إيذان بأنه أوثق وأقرب إلى الإطمئنان وفي البحر قدم لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة فإذا أنقدح الحق بين الأثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة وشاع الفتح بين الأثنين ثم تتفكروا في أمره وما جاء به لتعلموا حقيته والوقف عند أبي حاتم هنا وقوله تعالى : ما بصاحبكم من جنة إستئناف مسوق من جهته تعالى للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن مثل هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة لا يتصدى لإدعائه إلا مجنون لا يبالي بإفتضاحه عند مطالبته بالبرهان وظهور عجزه أو مؤيد من عند الله تعالى مرشح للنبوة واثق بحجته وبرهانه وإذ قد علمتم أنه عليه الصلاة و السلام أرجح الناس عقلا وأصدقهم قولا وأذكاهم نفسا وأفضلهم علما وأحسنهم

الصفحة 154