كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

أمن من عذاب الدارين إن كان ذلك عن صدق وأمن في نفسه ودمه وحرمه في الدنيا إن كان ظاهرا ولا كذلك العمل بالجوارح وأيضا أن القلب هو الأصل وما فيه لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يبين صدقه إلا بالفعل فالقول أقرب إلى القلب من الفعل فيكون أشرف منه وفي القلب منه شيء فتدبر
والذين يمكرون السيآت أي المكرات السيآت أو أصناف المكرات السيآت على أن السيآت صفة لمحذوف وليس مفعولا به ليمكرون لأن مكر لازم وجوز أن يكون مفعولا على تضمين يقصدون أو يكسبون وعلى الأول فيه مبالغة للوعيد الشديد على قصد المكر أو هو إشارة إلى عدم تأثير مكرهم والموصول مبتدأ وجملة قوله تعالى لهم عذاب شديد خبره أي لهم بسبب مكرهم عذاب شديد لا يقادر قدره ولا يعبأ بالنسبة إليه بما يمكرون والآية على ما روى عن أبي العالية في الذين مكروا برسول الله في دار الندوة كما قال تعالى وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك والمضارع لحكاية الحال الماضية ووضع أسم الإشارة موضع ضميرهم في قوله سبحانه ومكر أولئك للإيذان بكمال تميزهم بما هم عليه من الشر والفساد عن سائر المفسدين وإشتهارهم بذلك وما فيه من معنى البعد للتنبيه على ترامي أمرهم في الطغيان وبعد منزلتهم في العدوان أي ومكر أولئك المفسدين المشهورين هو يبور 01 أي يفسد وأصل البوار فرط الكساد أو الهلاك فأستعير هنا للفساد عدم التأثير لأن فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد أو لأن الكاسد يكسد في الغالب لفساده ولأن الهالك فاسد لا أثر له و مكر مبتدأ خبره جملة هو يبور وتقديم الضمير للتقوى أو الإختصاص أي مكرهم هو يفسد خاصة لا مكرنا بهم وأجاز الحوفي وأبو البقاء كون الخبر جملة يبور و هو ضمير فصل وتعقبه في البحر بأن ضمير الفصل لا يكون ما بعده فعلا ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمنا إلا عبدالقاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلا ورد ذلك عليه
وجوز أبو البقاء أيضا كون هو تأكيدا للمبتدأ والظاهر ما قدمناه وقد أبار الله تعالى أولئك الماكرين بعد إبارة مكرهم حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي أكتفوا في حقه عليه الصلاة و السلام بواحدة منهن وحقق عزوجل فيهم قوله سبحانه : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين وقوله تعالى : ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ووجه إرتباط الآية بم قبلها على ما ذكره شيخ الإسلام أنها بيان لحال الكلم الخبيث والعمل السيء وأهلمها بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح
وقال في الكشف : كأنه لما حصر سبحانه العزة وخصها به تعالى يعطيها من يشاء وأرشد إلى نيل ما به ينال ذلك المطلوب ذكر على سبيل الإستطراد حال من أراد العزة من عند غيره عزوجل وأخذ في إهانة من أعزه الله تعالى فوق السماكين قدرا وما رجع إليهم من وبال ذلك كالإستشهاد لتلك الدعوى وهو خلاصة ما ذكره الطيبي في وجه الإنتظام وروى عن مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب أن الآية في أصحاب الرياء وهي متصلة بما عندها على ما روى عن شهر حيث قال : والذين يمكرون السيآت أي يراؤن ومكر أولئك هو يبور هم أصحاب الرياء عملهم لا يصعد وقال الطيبي : إن الجملة على هذه الرواية عطف على جملة الشرط والجزاء أعني قوله تعالى : من كان يريد العزة إلخ فيجب حينئذ مراعاة التطابق بين القرينتين والتقابل بين الفقرتين بحسب الإمكان بأن يقدر في كل منهما ما يحصل به التقابل بدلالة المذكور في الأولى على المتروك في الأخرى وبالعكس

الصفحة 176