كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

سوء إختيارهم وقبح حالهم فإن جعل الله تعالى إياهم بما أظهر فيهم من الإعجاب العظيم بأنفسهم مستكبرين عن إتباع الرسل عليم السلام شامخين برؤسهم غير خاضعين لما جاؤا به وسد أبواب النظر فيما ينفعهم عليهم بالكلية ليس إلا لأنهم سيئو الإختيار وقبيحو الأحوال قد عشقت ذواتهم ما هم عليه عشقا ذاتيا وطلبته طلبا إستعداديا فلم تكن لها قابلية لغيره ولم تلتفت إلى ما سواه وإذا قايست بين ذواتهم وما هم عليه وبين الجسم والحيز أو الثلاثة والفردية مثلا لم تكد تجد فرقا وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ففي الكلام تشبيهات متعددة كما لوحنا إليه وهذا الوجه هو الذي يقتضيه ما عليه كثير من الأجلة وإن لم يذكروه في الآية وفي الإنتصاف إذا فرق التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال وكان إستكبارهم عن قبول الحق والتواضع لإستماعه مشبها بالأقماح لأن المقمح لا يطأطأ رأسه وقوله تعالى : فهي إلى الأذقان تتمة للزوم الأقماح لهم وكان عدم النظر في أحوال الأمم الخالية مشبها بسد من خلفهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم وفي التيسير جمع الأيدي إلى الأذقان بالأغلال عبارة عن منع التوفيق حتى أستكبروا عن الحق لأن المتكبر يوصف برفع العنق والمتواضع بضده كما في قوله تعالى فظلت أعناقهم لها خاضعين ولم يذكر المراد بجعل السد وذكر الإمام أن المانع عن النظر في الآيات قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه وقسم يمنع عن النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن إبتلى بهما حرم عن النظر بالكلية وأختار بعضهم كون إنا جعلنا إلخ تمثيلا مسوقا لتقرير تصميمهم على الكفر وعدم أرعوائهم عنه فيكون قد مثل حالهم في ذلك بحال الذين غلت أعناقهم وجوز في قوله تعالى وجعلنا إلخ أن يكون تتمة لذلك وتكميلا له وأن يكون تمثيلا مستقلا فإن جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئا قطعا كاف في الكشف عن كمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات
وقال أبو حيان الظاهر أن قوله تعالى إنا جعلنا الآية على حقيقتها لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر سبحانه عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع ولا يضعف هذا كما زعم إبن عطية قوله تعالى فأغشيناهم فهم لا يبصرون لأن بصر الكافر يومئذ حديد يرى قبح حاله ألا ترى إلى قوله سبحانه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وقوله سبحانه قال رب لم حشرتني أعمى فأما أن يكون ذلك حالين وإما أن يكون قوله تعالى : فبصرك اليوم حديد كناية عن إدراكه ما يؤول إليه حتى كأنه يبصره وأعترض بعضهم عليه بأنه يلزم أن يكون الكلام أجنبيا في البين وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله تعالى لقد حق القول على أكثرهم قد دغدغ فيه والإنصاف أنه خلاف الظاهر وقال الضحاك : والفراء في قوله تعالى : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا إستعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله تعالى كما قال سبحانه ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولعله جعل الجملة الثانية إستعارة لمنعهم عن رؤية الخير والسعي فيه ولا يخفى أن كون الكلام على هذا أجنبيا في البين في غاية الظهور وأخرج إبن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن إبن عباس قال : كان النبي يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة فتأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاؤا إلى النبي فقالوا : ننشدك الله تعالى والرحم يامحمد قال ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي فيهم قرابة

الصفحة 216