كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

الإسراف ومجاوزة الحد في العصيان مستمرون عليه فمن ثم أتاكم الشؤم لا من قبل رسل الله تعالى وتذكيرهم فهو إضراب عما يقتضيه قوله تعالى : أئن ذكرتم من إنكار أن يكون ما هو سبب السعادات أجمع سبب الشؤم لأنه تنبيه وتعريك إلى البت عليهم بلزام الشؤم وإثبات الإسراف الذي هو أبلغ وهو جالب الشؤم كله أو بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من الهداة لدين الله تعالى فهو إضراب عن مجموع الكلام أجابوهم بأنهم جعلوا أسبابا للسعادة مدمجين فيه التنبيه على سوء صنيعهم في الحرمان عنها ثم أضربوا عنه إلى ما فعل القوم من التعكيس لما يقتضيه النظر الصحيح فتأمل
وجاء من أقصى المدينة أي من أبعد مواضعها رجل أي رجل عند الله تعالى فتنوينه للتعظيم وجوز أن يكون التنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطوأ معه وأسمهعل ىما روى عن إبن عباس وأبي مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل حبيب وهو إبن إسرائيل على ما قيل وقيل : إبن مري وكان على المشهور نجارا وقيل : كان حراثا وقيل : قصارا وقيل : إسكافا وقيل : نحاتا للأصنام ويمكن أن يكون جامعا لهذه الصفات وذكر بعضهم أنه كان في غار مؤمنا يعبد ربه عزوجل فلما سمع أن قومه كذبوا الرسل جاء يسعى أي يعدو ويسرع في مشيه حرصا على نصح قومه وقيل : إنه سمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصد وجه الله تعالى بالذب عنهم فسعى هنا مثلها في قوله تعالى : وسعى لها سعيها وهو مجاز مشهور وكونه في غار لا ينافي مجيئه من أقصى المدينة لجواز أن يكون في أقصاها غار نعم هذا القول ظاهر في أنه كان مؤمنا وهو ينافي أنه كان نحاتا للأصنام وأجيب بأن المراد ينحت التماثيل لا للعبادة وكان في تلك الشريعة مباحا وحكى القول بإيمانه عن إبن أبي ليلى ونقل في البحر عنه أنه قال : سباق الأمم ثلاثة لم يفكروا قط طرفة عين علي بن أبي طالب وصاحب يس ومؤمن آل فرعون
وذكر الزمخشري وجماعة هذا حديثا عن رسول الله وكذا ذكروا أنه ممن آمن برسول الله كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما ولم يؤمن أحد بنبي غيره عليه الصلاة و السلام قبل ظهوره
وقيل كان مجذوما وكان منزله أقصى باب من أبواب المدينة عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره فلم يكشف فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله تعالى قال : هل من آية قالوا : نعم ندعوا ربنا القادر يفرج عنك ما بك فقال : إن هذا لعجب لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع تفريجه فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة قالوا : ربنا على ما يشاء قدير وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر فآمن ودعوا ربهم سبحانه فكشف عزوجل ما به كأن لم يكن به بأس فأقبل على التكسب فإذا أمسى تصدق بنصف كسبه وأنفق النصف الآخر على نفسه وعياله فلما هم قومه بقتل الرسل جاء من أقصى المدينة يسعى وعلى هذا نحته للأصنام غير مشكل ولا يحتاج إلى ذلك الجواب البعيد نعم بين هذا وبين خبر سباق الأمم ثلاثة وأنه ممن آمن برسول الله كما آمن تبع منافاة وكون إيمانه به عليه الصلاة و السلام إنما كان على يد الرسل وإن كان خلاف الظاهر دافع للمنافاة بينه وبين الأخير فتبقى المنافاة بينه وبين الخبر الأول إلا أن يقال : المراد سباق الأمم إلى الإيمان بعد الدعوة ثلاثة لم يكفروا بعدها قط طرفة عين ومما يدل بظاهره أن الرجل لم يكن قبل مؤمنا ما حكى أن المرسلين اللذين أرسلا

الصفحة 225