كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

أولا لما قربا إلى المدينة رأياه يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية فقالا : نشفي المريض ونبريء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فبريء فآمن وحمل آمن على أظهر الإيمان خلاف الظاهر والذي يترجح في نظري أنه كان مؤمنا بالمرسلين قبل مجيئه ونصحه لقومه ولا جزم لي بإيمانه ولا عدمه قبل إرسال الرسل وظواهر الأخبار في ذلك متعارضة ومع هذا لم يتحقق عندي صحة شيء منها والله أعلم تعالى أعلم بحقيقة الحال
وجاء من أقصى المدينة هنا مقدما على رجل عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة
وقال الخفاجي : قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بيانا لفضله إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم وإن بعده لم يمنعه عن ذلك ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وإن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد وقيل قدم للإهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين وقيل إنه لو أخرتوهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود وجملة يسعى صفة رجل وجوز كونها حالا منه من جوز مجيء الحال من النكرة وقوله تعالى قال إستئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال عند مجيئه فقيل : قال ياقوم أتبعوا المرسلين 02 وجوز كونه بيانا للسعي بمعنى قصد وجه الله عزوجل ولا يخفى ما فيه والتعرض لعنوان رسالتهم لحثهم على إتباعهم كما أن خطابهم بياقوم لتأليف قلوبهم وإستمالتها نحو قبول نصيحته وقوله تعالى : أتبعوا من لا يسألكم أجرا تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن إتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضى وقوله سبحانه : وهم مهتدون 12 أي ثابتون على الإهتداء بما هم عليه إلى خير الدنيا والآخرة جملة حالية فيها ما يؤكد كونهم لا يسألون الأجر ولا ما يتبعه من طلب جاه وعلو ولذا جعلت إيغالا حسنا نحو قول الخنساء : وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار والظاهر أن الرجل لم يقل ذلك إلا بعد سبق إيمانه وروى أنه لما بلغته الدعوة جاء يسعى فسمع كلامهم وفهمه ثم قال لهم : أتطلبون أجرا على دعوتكم هذه قالوا : لا فدعا عند ذلك قومه إلى إتباعهم والإيمان بهم قائلا ياقوم إلخ وللنحويين في مثل هذا التركيب وجهان أحدهما أن تكون من بدلا من المرسلين بإعادة العامل كما أعيد إذا كان حرف جر نحو قوله تعالى : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم وإليه ذهب بعضهم وثانيهما وإليه ذهب الجمهور أنه ليس ببدل فإنه مخصوص بما إذا كان العامل المعاد حرف جر أما إذا كان رافعا أو ناصبا فيسمون ذلك بالتتبيع لا بالبدل وأستدل بالآية على نقص من يأخذ أجرة على شيء من أفعال الشرع والبحث مستوفي في الفروع ومالي لا أعبد الذي فطرني تلطف في إرشاد قومه بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وأمحاض النصح حيث أراهم أنه أختار لهم ما يختار لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كما ينبيء عنه قوله وإليه ترجعون 22 مبالغة في تهديدهم بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب مواجهة وصريحا ولو قال : وإليه أرجع كان فيه تهديد بطريق التعريض وعد التعبير بإليه ترجعون بعد التعبير بما لي لا أعبد من باب الإلتفات لمكان التعريض بالمخاطبين في مالي لا أعبد إلخ فيكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا بناء على ما ذهب إليه الخطيب والسعد التفتازاني من أن التعريض إما مجاز أو كناية وهو ههنا مجاز لإمتناع

الصفحة 226