كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية ولم يبلغنا أن أحدا منهم إدعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور : ليتني كنت سألت رسول الله عليه الصلاة و السلام عنه ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال وقد وقفت على إختلافهم في حكم الجد مع الإخوة فهل وقفت على أن أحدا منهم ظهر له الرسول فأرشده إلى ما هو الحق فيه وقد بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك فهل بلغك أنه عليه الصلاة و السلام ظهر لها كما يظهر للصوفية قبل لوعتها وهون حزنها وبين الحال لها وقد سمعت بذهاب عائشة رضي الله تعالى عنها إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل فهل سمعت تعرضه لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصي كثرة والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة و السلام لأحد من أصحابه وأهل بيته وهم هم مع إحتياجهم الشديد لذلك وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة إفتراء محض وبهت بحت
وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام ولا يحسن معنى أن أقول : كل ما يكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدعيه وكذا لا يحسن مني أن أقول : إنهم إنما رأوا النبي مناما فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة فقالوا : رأينا يقظة لما فيه من البعد ولعل في كلامهم ما يأباه وغاية ما أقول : إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السلام وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جدا وأنى يرى النجم تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد إنتشر ضوء الشمس في البقاع فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه ويمكن أن يقال : إنه لم يقع لحكمه الإبتلاء أو لخوف الفتنة أو لأن في القوم من هو كالمرآة له أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنته فيما يهمهم فيتسع باب الإجتهاد وتنتشر الشريعة وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد أو لنحو ذلك
وربما يدعى أنه عليه الصلاة و السلام ظهر ولكن كان متسترا في ظهوره كما روى أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول الله عليه الصلاة و السلام ولم ير صورة نفسه فهذا كالظهور الذي يدعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرأة وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى مرآته عليه الصلاة و السلام وملاحظة أنه كثيرا ما ظهرت فيها صورته حسبما ظنه إبن خلدون
فإن قبل قولي وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت وإلا فالأمر مشكل فأطلب لك ما يحله والله سبحانه الموفق للصواب
هذا وقيل يجوز أن يكون عيسى عليه السلام قد تلقى من نبينا عليه الصلاة و السلام أحكام شريعته المخالفة لما كان عليه هو من الشريعة حال إجتماعه معه قبل وفاته في الأرض لعلمه أنه سينزل ويحتاج إلى ذلك وإجتماعه معه كذلك جاء في الأخبار

الصفحة 39