كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

أخرج إبن عدي عن أنس بينا نحن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا فقلنا يارسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد قال : قد رأيتموه قالوا : نعم قال : ذلك عيسى إبن مريم سلم علي وفي رواية إبن عساكر عنه كنت أطوف مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا ولم أره قلنا : يارسول الله صافحت شيئا ولا نراه قال : ذلك أخي عيسى إبن مريم إنتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه ومن هنا عد عليه السلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقيل : إنه عليه السلام بعد نزوله يتلقى أحكام شريعتنا من الملك بأن يعلمه إياها أو يوقفه عليها لا على وجه الإيحاء بها عليه من جهته عزوجل وبعثته بها ليكون في ذلك رسالة جديدة متضمنة نبوة جديدة وقد دل قوله تعالى : وخاتم النبيين على إنقطاعها بل على نحو تعليم الشيخ ما علمه من الشريعة تلميذه ومجرد الإجتماع بالملك والأخذ عنه وتكليمه لا يستدعي النبوة ومن توهم إستدعاء إياها فقد حادكما قال اللقانيعن الصواب فقد كلمت الملائكة عليهم السلام مريم وأم موسى في قول ورجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وبلغته أن الله عزوجل يحبه كحبه لأخيه فيه
وأخرج إبن أبي الدنيا في كتاب الذكر عن أنس قال : قال أبي بن كعب لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله تعالى بمحامد لم يحمده بها أحد فلما صلى وجلس ليحمد الله تعالى ويثني عليه إذا هو بصوت عال من خلف يقول : اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره لك الحمد إنك على كل شيء قدير أغفر لي ما مضى من ذنوبي وأعصمني فيما بقى من عمري وأرزقني أعمالا زاكية ترضى بها عني وتب علي فأتى رسول الله فقص عليه فقال : ذاك جبريل عليه السلام والأخبار طافحة برؤية الصحابة للملك وسماعهم كلامه وكفى دليلا لما نحن فيه قوله سبحانه : إن الذين قالوا ربنا الله ثم أستقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون الآية فإن فيها نزول الملك على غير الأنبياء في الدنيا وتكليمه إياه ولم يقل أحد من الناس : إن ذلك يستدعي النبوة وكون ذلك لأن النزول والتكليم قبيل الموت غير مفيد كما لا يخفى وقد ذهب الصوفية إلى نحو ما ذكرناه قال حجة الإسلام الغزالي في كتابهالمنقذ من الضلالاثناء الكلام على مدح أولئك السادة : ثم إنهم وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والإمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق
وقال تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه قانون التأويل : ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للإنسان طهارة النفس وتزكية القلب وقطع العلائق وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس والإقبال على الله تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرا كشفت له القلوب ورأى الملائكة وسمع كلامهم وأطلع على أرواح الأنبياء والملائكة وسماع كلامهم ممكن للمؤمن كرامة وللكافر عقوبة
ونسب إلى بعض أئمة أهل البيت أنه قال : إن الملائكة لتزاحمنا في بيوتنا بالركب والظاهر من كلامهم أن الإجتماع بهم والأخذ عنهم لا يكون إلا للكاملين ذوي النفوس القدسية وأن الإخلال بالسنة مانع كبير عن ذلك ويرشد إليه ما أخرجه مسلم في صحيحه عن مطرف قال : قال لي عمران بن حصين قد كان ملك يسلم على حتى أكتويت فترك ثم تركت الكي فعاد ويعلم مما ذكرنا أن مدعيه إذا كان مخالفا لحكم الكتاب والسنة كاذب لا ينبغي أن يصغى إليه ودعواه باطلة مردودة عليه فأين الظلمة من النور والنجس من الطهور ثم أنه لا طريق إلى معرفة كون المجتمع به ملكا بعد خبر الصادق سوى العلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى في العبد بذلك ويقطع بعدم كونه

الصفحة 40