كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

الواصلة إليهم قبل ذلك ولعل إيثار الجملة الفعلية على الأسمية المناسبة لما قبلها للمبالغة في الترغيب والتشويق إلى الموعود ببيان أن الأمر الذي هو المقصد الأقصى من بين سائر آثار الرحمة موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد أعمالهم وتتحمل عنهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولا فيما لهم وما عليهم وهو حال مقدرة وإن أعتبر الإرسال أمرا ممتدا لإعتبار التحمل والأداء في الشهادة والإرسال بذلك الإعتبار وإن قارن التحمل إلا أنه غير مقارن للأداء وإن أعتبر الإمتداد
وقيل : بإطلاق الشهادة على التحمل فقط تكون الحال مقارنة والأحوال المذكورة بعد على إعتبار الإمتداد مقارنة ولك أن لا تعتبره أصلا فتكون الأحوال كلها مقدرة ثم إن تحمل الشهادة على من عاصره وأطلع على عمله أمر ظاهر وأما تحملها على من بعده بإعيانهم فإن كان مرادا أيضا ففيه خفاء لأن ظاهر الأخبار أنه عليه الصلاة و السلام لا يعرف أعمال من بعده بإعيانهم روى أبو بكر وأنس وحذيفة وسمرة وأبو الدرداء عنه ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم أختلجوا دوني فأقول : يارب أصيحابي أصيحابي فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك نعم قد يقال : إنه عليه الصلاة و السلام يعلم بطاعات ومماض تقع بعده من أمته لكن لا يعلم أعيان الطائعين والعاصين وبهذا يجمع بين الحديث المذكور وحديث عرض الأعمال عليه صلى الله تعالى عليه وسلم كل أسبوع أو أكثر أو أقل وقيل : يجمع بأنه عليه الصلاة و السلام يعلم الأعيان أيضا إلا أنه نسى فقال : أصيحابي ولتعظيم قبح ما أحدثوا قيل له : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك وقيل : يعرض ما عدا الكفر وهو كما ترى وأما زعم أن التحمل على من بعده إلى يوم القيامة لما أنه حي بروحه وجسده يسير حيث شاء في أقطار الأرض والملكوت فمبني على ما علمت حاله ولعل في هذين الخبرين ما يأباه كما لا يخفى على المتدبر وأشار بعض السادة الصوفية إلى أن الله تعالى قد اطلعه صلى الله تعالى عليه وسلم على أعمال العباد فنظر إليها ولذلك أطلق عليه عليه الصلاة و السلام شاهد قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره العزيز في مثنويه : در نظر بودش مقامات العباد زان سبب نامش خدا شاهد نهاد فتأمل ولا تغفل وقيل : المراد شاهدا على جميع الأمم يوم القيامة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ودعوهم إلى الله تعالى وشهادته بذلك لما علمه من كتابه المجيد وقيل : المراد شاهدا بأن لا إله إلا الله ومبشرا تبشر الطائعين بالجنة ونذيرا 54 تنذر الكافرين والعاصين بالنار ولعموم الإنذار وخصوص التبشير قيل : مبشرا ونذيرا على صيغة المبالغة دون ومنذرا مع أن ظاهر عطفه على مبشرا يقتضي ذلك وقدم التبشير لشرف المبشرين ولأنه المقصود الأصلي إذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم رحمة للعالمين وكأنه لهذا جبر ما فاته من المبالغة بقوله تعالى : وبشر المؤمنين وداعيا إلى الله أي إلى الإقرار به سبحانه وبوحدانيته وبسائر ما يجب الإيمان به من صفاته وأفعاله عزوجل ولعل هذا هو مراد إبن عباس وقتادة من قولهما أي شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه أي بتسيهله وتيسيره تعالى وأطلق الأذن على التسهيل مجازا لما أنه من أسبابه لا سيما الأذن من

الصفحة 45