كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

ولذا عدى بعلي على ما يظهر لي ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل
ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال : أي يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ثم قال : أراد بالإنضام معنى الأدناء وفي الكشاف معنى يدنين عليهن يرخين عليهن يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدنى ثوبك على وجهك
وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن وقيل : على رؤسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه
وأختلف في كيفية هذا التستر فأخرج إبن جرير وإبن المنذر وغيرهما عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن فرفع ملحفة كانت عليه فتقنع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر وقال السدي : تغطى إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين وقال إبن عباس وقتادة : تلوى الجلبا فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه وفي رواية أخرى عن الحبر رواها إبن جرير وإبن أبي حاتم وإبن مردويه تغطى وجهها من فوق رأسها بالجلبا وتبدي عينا واحدة
وأخرج عبدالرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها
وأخرج إبن مردويه عن عائشة قالت : رحم الله تعالى نساء الأنصار لما نزلت ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك الآية شققن مروطهن فأعتجزن بها فصلين خلف رسول الله كأنما على رؤسهن الغربان
ومن للتبعيض ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين أحدهما أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب وإدناء ذلك عليهن أن يلبسنه على البدن كله وثانيهما أن يكون المراد بالبعض جزأ منه وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن والنساء مختصات بحكم العرف بالحرائر وسبب النزول يقتضيه وما بعد ظاهر فيه فإماء المؤمنين غير داخلات في حكم الآية
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أن غير الحرة لا تتقنع أخرج إبن أبي شيبة عن قلابة قال : كان عمر بن الخطاب لا يدع في خلافته أمة تتقنع ويقول : القناع للحرائر لكيلا يؤذين وأخرج هو وعبد بن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : رأى عمر رضي الله تعالى عنه جارية مقنعة فضربها بدرته وقال : القى القناع لا تتشبهي بالحرائر وجاء في بعض الروايات أنه رضي الله تعالى عنه قال لأمة رآها مقنعة : يالكعاء أتشبهين بالحرائر وقال أبو حيان : نساء المؤمنين يشمل الحرائر والإماء والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح إنتهى وأنت تعلم أن وجه الحرة عندنا ليس بعورة فلا يجب ستره ويجوز النظر من الأجنبي إليه إن أمن الشهوة مطلقا وإلا فيحرم وقال القهستاني : منع النظر من الشابة في زماننا ولو بلا شهوة وأما حكم أمة الغير ولو مدبرة أو أم ولد فكحكم المحرم فيحل النظر إلى رأسها ووجهها وساقها وصدرها وعضدها إن أمن شهوته وشهوتها وظاهر الآية لا يساعد على ما ذكر في الحرائر فلعلها محمولة على طلب تستر تمتاز به الحرائر عن الإماء أو العفائف مطلقا عن غيرهن فتأمل و يدنين

الصفحة 89