كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

بين هذه الصفات القبيحة عن الإتصاف بها المفضى إلى الإيذاء لنغرينك بهم أي لندعوك إلى قتالهم وإجلائهم أو فعل ما يضطرهم إلى الجلاء ونحرضك على ذلك يقال : أغراه بكذا إذا دعاه إلى تناوله بالتحريض عليه وقال الراغب : غرى بكذا أي لهج به ولصق وأصل ذلك من الغراى وهو ما يلصق به وقد أغريت فلانا بكذا ألهجت به وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أي لنسلطنك عليهم ثم لا يجاورونك عطف على جواب القسم وثم للتفاوت الرتبي والدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول أعظم ما يصيبهم وأشده عندهم فيها أي في المدينة إلا قليلا 06 أي زمانا أو جوارا قليلا ريثما يتبين حالهم من الإنتهاء وعدمه أو يتلقطون عيالاتهم وأنفسهم
وفي الآية عليه كما في الإنتصاف إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتيسر له منزل آخر على حسب الإجتهاد ونصب قليلا على ما أشرنا إليه على الظرفية أو المصدرية وجوز أن يكون نصبا على الحال أي إلا قليلين أذلاء ولا يخفى حاله على ذي تمييز
وقوله تعالى : ملعونين نصب على الذم أي أذم ملعونين أو على الحال من فاعل لا يجاورونك والإستنثاء شامل له عند من يرى جواز نحو ذلك وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه وجعل إبن عطية المعنى على الحالية ينتفون ملعونين وجوز أن يكون حالا من ضميرهم في قوله تعالى : أين ما ثقفوا أي حصروا وظفر بهم وكأنه على معنى أينما ثقفوا متصفين بما هم عليه أخذوا أس أسروا ومنه الأخيذ للأسير وقتلوا تقتيلا 16 أي قتلوا أبلغ قتل وقريء قتلوا بالتخفيف فيكون تقتيلا مصدرا على غير الصدر وأعترض على الحالية مما ذكر بأن أداة الشرط لا يعمل ما بدعها فيما قبلها مطلقا وهذا أحد مذاهب للنحاة في المسئلة ثانيها الجواز مطلقا وثالثها جواز تقديم معمول الجواب دون معمول الشرط وجوز على تقدير كون قليلا حالا أن يكون ملعونين بدلا منه وتعقبه أبو حيان بأن البدل بالمشتق قليل ثم قال : والصحيح أن ملعونين صفة لقليل أي إلا قليلين ملعونين ويكون قليلا مستثنى من الواو في لا يجارونك والجملة الشرطية صفة أيضا أي مقهورين مغلوبا عليهم وهو كما ترى
وقوله تعالى : سنة الله في الذين خلوا من قبل مصدر مؤكد أي سن الله تعالى ذلك في الأمم الماضية سنة وهي قتال الذين يسعون بالفساد بين قوم وإجلائهم عن أوطانهم وقهرهم أينما ثقفوا متصفين بذلك
ولن تجد أيها النبي أو يأمن يصح منك الوجدان أبدا لسنة الله لعادته عزوجل المستمرة تبديلا 26 لإبتنائها على أساس الحكمة فلا يبدلها هو جل شأنه وهيهات هيهات أن يقدر غيره سبحانه على تبديلها ومن سبر أخبار الماضين وقف على أمر عظيم في سوء معاملتهم المفسدين فيما بينهم وكأن الطباع مجبولة على سوء المعاملة معهم وقهرهم وفي تفسير الفخر ولن تجد لسنة الله تبديلا أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ وللسدي كلام غريب في الآية لا أظن أن أحدا قال به
أخرج إبن أبي حاتم عنه أنه قال فيها : كان النفاق على ثلاثة أوجه : نفاق مثل نفاق عبدالله بن سلول ونظائره كانوا وجوها من وجوه الأنصار فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا يصونون بذلك

الصفحة 91