كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

تعالى متضمن أنه تعالى أنتقم له من آذاه وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه إنتهى فلا تغفل
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها لما بين جل شأنه عظم شأن طاعة الله تعالى ورسوله ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والإلتزام من غير جبر هناك ولا إبرام وعبر عنها بالأمانة وهي في الأصل مصدر كالأمن والأمان تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين وأئتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والإنقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها وعبر عن إعتبارها بالنسبة إلى إستعداد ما ذكر من السموات وغيرها من حيث الخصوصيات بالعرض عليهن لإظهار مزيد الإعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها وعن عدم إستعدادهن لقبولها ومنافاتها لما هن عليه بالإباء والإشفاق منها لتهويل أمرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في القوة والشدة مراعاتها وكانت ذات شعور وإدراك لأبين قبولها وخفن منها لكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق لزيادة تحقيق المعنى المقصود وتوضيحه
وحملها الإنسان أي هذا الجنس نحو إن الإنسان لربه لكنود وإن الإنسان ليطغى وحمله إياها إما بإعتبارها بالإضافة إلى إستعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أي تكلفها وألتزمها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة وهو إما عبارة عن قبولها بموجب إستعداده الفطري أو عن القبول القولي يوم الميثاق وتخصيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون أيضا وكذا الملائكة عليهم السلام وإن لم يكن في ذلك كلفة عليهم لما أنه ليس فيه ما يخالف طباعهم لأن الكلام معه وقوله تعالى إنه كان ظلوما جهولا 27 إعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما تحمل والتأكيد لمظنة التردد أي إنه كان مفرطا في الظلم مبالغا في الجهل أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو قبولهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تعالى تبديلا ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض أفراده فضلا عن وجوده في غالبها وإلى الفريق الأول أشير بقوله تعالى : ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات أي حملها الإنسان ليعذب الله تعالى بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعلقة بها أبرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية وإلى الفريق الثاني أشير بقوله سبحانه ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة

الصفحة 96