كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 22)

الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم إلا على القول بإرادة الجنس وإخراج الكلام مخرج الإستخدام على نحو ما قالوا في عندي درهم ونصفه بعيد لفظا ومعنى وقيل المراد بالأمانة مطلق الأنقياد الشامل للطبيعي والإختياري وبعرضها أستدعاؤه الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والإمتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته وأنشدوا
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أخرجتك الودائع فيكون الأباء إمتناعا من الخيانة وإتيانا بالمراد فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتنا وأتين بما أمرناهن به لقوله تعالى أتينا طائعين وخائها الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا ولا يخفى بعده ولم نر في المأثور ما يؤيده نعم أن العوام يقولون : إن الأرض لا تخون الأمانة حتى أنهم جرت عادتهم في بلادنا أنهم إذا أرادوا دفن ميت في مكان ولم يتيسر لهم وضعوه في قبر وقالوا حين الوضع مخاطبين الأرض : هذا أمانة عندك كذا شهرا أو كذا سنة وحثوا التراب عليه وأنصرفوا فإذا نبشوا القبر قبل مضي المدة وجدوه كما وضعوه لم يتغير منه شيء فيخرجونه ويدفنونه حيث أرادوا وإذا بقي حتى تمضي المدة التي عينوها وجدوه متغيرا وهذا أمر تواتر نقله لنا وهو مما يستبعده العقل وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق الزجاج إلا أنه قال : عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات ونقله عنه أبو حيان وذكر البيت المار آنفا لكنه تعقبه بأن الحمل فيه ليس نصا في الخيانة وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن إعتبارها بالإضافة إلى إستعدادهن وبابأئهن الأباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والإستعداد لها وبحمل الإنسان قابليته وإستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية الداعية للظلم والشهوية الداعية للجهل بعواقب الأمور قيل وعليه ينتظم قوله تعالى : إنه كان ظلوما جهولا مع ما قبله على أنه علته بإعتبار حمل العقل عليه بمعنى إيداعه فيه لأجل إصلاح ما فيه من القوتين المحتاجتين إلى سلطان العقل الحاكم عليهما فكأنه قيل : حملناه ذلك لما فيه من القوى المحتاجة لقهره وضبطه وكذا إذا أريد التكليف فإن معظم المقصود منه تعديل تلك القوى وكسر سورتها ومن هنا قيل إنه أقرب للتحقيق وقيل الأمانة تجلياته عزوجل بأسمائه الحسنى وصفاته تعالى العليا وعرضها عليهن وإباؤهن وحمل الإنسان كالمذكور آنفا
وقوله تعالى : إنه كان ظلوما جهولا تعليل للحمل مشار به إلى قوة إستعداده وقوله سبحانه ليعذب تعليل للعرض على معنى عرضنا ذلك لتظهر تجلياتنا الجلالية والجمالية ويشير إلى هذا قول العلامة الطيبي عليه الرحمة : إن الله تعالى خلق الخلق ليكون مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا فحامل معنى الكبرياء والعظمة السموات والأرض والجبال من حيث كونها عاجزة عن حمل سائر الصفات لعدم إستعدادها لقبولها ولذلك أبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لقوة إستعداده وإقتداره لكونه ظلوما جهولا فأختص لذلك من بين سائر المخلوقات بقبول تجلي القهارية والتوابية والمغفرة وشاركها بقبول تجلى الرحمة وله النصيب الأوفر منها لقوة إستعداده وإقتداره وهو مشرب صوفي كما لا يخفى وأنا أختار كون الأمانة كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته ولها أفراد كثيرة متفاوتة في جلالة القدر وإن عرضها على تلك الأجرام كان على وجه التخيير

الصفحة 99