كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)
طحن جعجع وجمع بين ما يعلم بالضرورة أنه كذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه وما يعلم بالضرورة أنه خطأ في تأويل كلام الله تعالى ومعرفة مراده سبحانه ولا يروج ما ذكره إلا على مفرط في الجهل أو مقلد لأهل الباطل من المنجمين وإن أردت الإيضاح وأحببت الإتضاح فاسمع لما نقول : ما ذكره من الإستدلالات أو هي من بيوت العناكب وأشبه شيء بنار الحباحب فأما الإستدلال بقوله تعالى : فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ففيه أنا لا نسلم إن هناك قسما بالنجوم فقد روي عن ابن مسعود أن المراد بالخنس الوحش وهي رواية عن ابن عباس واختاره ابن جبير وحكى الماوردي أنها الملائكة وإذا سلم ذلك بناء على أنه الذي ذهب إليه الجمهور فأي دلالة فيه على التأثير وقد أقسم سبحانه بالليل والنهار والضحى ومكة والوالد وما ولد والفجر وليال عشر والشفع والوتر والسماء والأرض واليوم الموعود وشاهد ومشهود والمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والنازعات والسابحات والسابقات والتين والزيتون وطور سينين إلى غير ذلك فلو كان الإقسامبشيء دليلا على تأثره لزم أن يكون جميع مااقسم به تعالى مؤثرا وهم لا يقولون به وإن لم يكن دليلا فالإستدلال به باطل ومثله في ذلك الإستدلال بقوله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم وقد فسر غير واحد مواقع النجوم بمنازل القرآن ونجومه التي نزلت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مدة ثلاث وعشرين سنة وكذا الإستدلال بقوله سبحانه وتعالى والسماء والطارق
وأما قوله تعالى فالمدبرات أمرا فلم يقل أحد من الصحابة والتابعين وعلماء التفسير أنه إقسام بالنجوم فهذا ابن عباس وعطاء وعبد الرحمن بن سابط وابن 5 قتيبة وغيرهم قالوا : إن المراد بالمدبرات أمرا الملائكة حتى قال ابن عطية : لا أحفظ خلافا في ذلك وكذلك المقسمات أمرا فتفسيرهما بالنجوم تفسير المنجمين ومن سلك سبيلهم وهو تفسير بالرأي والعياذ بالله تعالى وأما وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كما في الآية التي ذكرها فليس ذلك لتأثير الكواكب ونحوستها بحسب ما يزعم المنجم بل لأن الله تعالى عذب أعداءه فيها فهي أيام مشائيم على الأعداء فوصف تلك الأيام بنحسات كوصف يوم القيامة بأنه عسير على الكافرين
وكذا يقال في قوله تعالى في يوم نحس مستمر وليس مستمر فيه صفة يوم بل هو صفة نحس أي نحس دائم لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها والقول بأنه صفة يوم وإن المراد به يوم أربعاء آخر الشهر وأنه نحس أبدا غلط ولا يكاد المنجم يزعم نحوسة يوم أربعاء آخر الشهر ولو شهر صفر أبدا بل كثيرا ما يحكم بغاية سعده حسبما تقتضيه الأوضاع الفلكية فيه بزعمه
وأما استدلاله بالآيات الدالة على أنه سبحانه وضع حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم فمن الطرائف إذ الأليق لو صح زعم المنجم أن يذكر في الآية ما تقتضيه النجوم من السعد والنحس وتعطيه من السعادة والشقاوة وتهبه من الأعمار والأرزاق والعلوم والمعارف وسائر ما في العالم من الخير والشر فإن العبر بذلك أعظم من العبر بمجرد الضياء والنور ومعرفة عدد السنين والحساب وأما ما ذكره عن إبراهيم عليه السلام من أنه تمسك بعلم النجوم حين قال إني سقيم فسقيم جدا وقد سمعت ما قيل في الآية ولا ينبغي أن يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث ولو فتح هذا الباب على الأنبياء عليهم السلام لاحتمل أن يكون جميع أخبارهم عن المستقبلات من