كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 23)

وأصحابه وكان بعد أبي الصلت بنحو مائة سنة فخالف الأوائل والأواخر في الصناعتين الرصدية والإحكامية
وآخر ما نعلم حدوثه زيج لا لنت والقسيني وفيه من المخالفة لما قبله من الإزياج ما فيه وقد ذكر فيه تقويم هرشل ومقدار حركته وهو كوكب سيار ظفر به هرشل أحد فلاسفة الأفرنج وسماه باسمه ولم يظفر به أحد قبله وهذا الزيج أضبط الأزياج فيما يزعم المنجمون اليوم والإفرنج على مهارة كثير منهم بعلم الرصد لا يقولون بشيء مما يقول به الأحكاميون الأوائل والأواخر ويسخرون منهم وقد ذكر من يوثق به وجوها تدل على فساد ما بأيديهم من العلم وأنه لا يوثق به الأول أن معرفة جميع المؤثرات الفلكية مما لا تتأتى أما أولا فلأنه لا سبيل إلى معرفة الكواكب إلا بواسطة القوى الباصرة وإذا كان المرئي صغيرا أو في غاية البعد يتعذر رؤيته فإن أصغر الكواكب التي في فلك الثوابت وهو الذي به قوة البصر مثل الأرض بضعة عشر مرة وكرة الأرض أعظم من كرة عطارد كذا مرة فلو قدرنا أنه حصل في الفلك الأعظم كواكب كثيرة كل منها كعطارد حجما فكيف ترى ونفي هذا الإحتمال لا بد له من دليل ومع قيامه لا يحصل الجزم بمعرفة جميع المؤثرات وإن قالوا : جاز ذلك إلا أن آثار هذا الكوكب لصغره ضعيفة فلا تصل إلى هذا العالم قلنا : صغر الجرم لا يوجب ضعف الأثر فقد أثبتهم لعطارد آثار قوية مع صغره بالنسبة إلى سائر السيارات بل أثبتم للرأس والذنب وسهم السعادة وسهم الغيب آثار قوية وهي أمور وهمية وأما ثانيا فالمرصود من الكواكب المرئية أقل قليل بالنسبة إلى غير المرصود فمن أين لهم الوقوف على طبيعة غير المرصود وأما ثالثا فلأنه لم يحصل الوقوف على طبائع جميع المرصود أيضا وقلما تكلموا في معرفة غير الثوابت التي من القدر الأول والثاني وأما رابعا فآلات الرصد لا تفي بضبط الثواني والثوالث فما فوق ولا شك في أن الثانية الواحدة مثل الأرض كذا ألف مرة أو أقل أو أكثر ومع هذا التفاوت العظيم كيف الوصول إلى الغرض وقد قيل أن الإنسان الشديد الجري بين رفعه رجله ووضعه الأخرى يتحرك جرم الفلك الأقصى ثلاثة آلاف ميل فإذا كان كذلك فكيف ضبط هذه المؤثرات وأما خامسا فبتقديرانهم عرفوا طبائع هذه الكواكب حال بساطتها فهل وقفوا على طبائعها حال امتزاج بعضها ببعض والإمتزاجات الحاصلة مع طبائع ألف كوكب أو أكثر بحسب الأجزاء الفلكية تبليغ في الكثرة إلى حيث لا يقدر العقل على ضبطها وأما سادسا فيقال : هب أنا عرفنا تلك الإمتزاجات الحاصلة في ذلك الوقت فلا ريب أنه لا يمكننا معرفة الإمتزاجات التي كانت حاصلة قبله مع أنا نعلم قطعا أن الأشكال السالفة ربما كانت عائقة ومانعة عن مقتضيات الأشكال الحاصلة في الحال ولا ريب إنا نشاهد أشخاصا كثيرة من النبات والحيوان والإنسان تحدث مقارنة لطالع واحد مع أن كل واحد منها مخالف للآخر في أكثر الأمور وذلك أن الأحوال السابقة في حق كل واحد تكون مخالفة للأحوال السابقة في حق الآخر وذلك يدل على أنه لا اعتماد على مقتضى طالع الوقت بل لا بد من الإحاطة بالطوالع السالفة وذلك مما لا وقوف عليه فإنه ربما كانت تلك الطوالع دافعة مقتضيات هذا الطالع الحاضر وعلى هذا الوجه عول ابن سينا في كتابيه الشفاء والنجاة في إبطال هذا العلم الثاني أن تأثير الكواكب يختلف باختلاف أقدارها فما كان من القدر الأول أثر بوقوعه على الدرجة وإن لم تضبط الدقيقة وما كان من القدر الأخير لم يؤثر إلا بضبط الدقيقة ولا ريب بجهالة مقادير جميع الكواكب فكيف تضبط الآثار الثالث فساد أصولهم وتناقض آرائهم

الصفحة 117